أعراف
- التفاصيل
- الزيارات: 1544
للكعبةِ ربٌّ يحميها
وحمامٌ..
والسجدةُ فوق الأرض الطاهرةِ أمانٌ
كالقبلةِ حانيةً
منْ سوّى أرضَكَ ناعمَةً
كالوردةِ عندَ حبيبِكَ
كالخدِّ.
تمضي الأيامُ
يضيءُ الحلْمُ
وعطركَ للمتنسّكِ وِردٌ
وأنا العشاقُ
توحّدُ قلبٍ في جمعٍ
هتفوا والهاءُ تؤازرهم:
الله الله
الله الله
وهتفْتُ: الله الله الله
أيدي، وقلوبٌ، وشفاهْ
- أرأيتَ؟!
رأيتُ، وأشعلني وجْدي
يا وِردي.. ما أعظمَ وِردَكْ.
واليومَ وقدْ آخيتُ من الرشدِ أشدَّكْ
وبلغتُ على دربِ الحبِّ أشدِّي.
قلْ لي
مَنْ يهَبُ الآخرَ نصْحَ العارِفِ:
رشدُكَ..
أمْ رشدِي؟!
صاحبْتكَ كالندِّ
فكنْ ندِّي.
إنْ كنتُ التائهَ خذْ بيَدِي
أوْ كنتُ الجاهلَ
شُدَّ بإيمانِ الموقِنِ زَندِي.
يا وطني
يا وطني
يا وطنِي
أحببتك حرّاً يا لوْني
صِبغةَ خالقِنا يا كوني
لكنّي أهمسُ تسمعُنِي
أتعَبَنِي حبُّكَ يا قيْدي.
فوربّ البيتِ وتطوافي
عهْداً يا وعْدُ أوثّقُهُ
بالشعرِ الخالدِ منْ بعْدي
من يجرؤُ..
أنْ ينقضَ عهْدَكْ.
لمْ أعشقْ قبلكَ يا قلبي
رحماكَ
ولنْ أعشقَ بعْدَكْ.
يا نون الغنّةِ
يا كافي
يا مهدَ اللثغةِ
يا سكَني
آمنتُ وآزرني زهدِي.
واليومَ أريدكَ يا وطني
فالبردُ يبعثرُ أطرافي
اجْ معْ نِي..
واستجمعْ زهدَكْ.
- التفاصيل
- الزيارات: 2046
أول الخلق والكون كلمة، أولها كاف: كن فيكون. فكان الكون. كوّنَهُ مَنْ كرسيّهُ على الماء، الملك المتكبر
الكبير الشكور الحكيم الكريم المليك الشاكر
المالك الوكيل الحكم الأكرم، له الكبرياء في السموات والأرض، وله الملك في الدنيا والآخرة، ما كان له
صاحبةٌ ولا ولد، له ملائكة مطيعون، وشياطين
كفرةٌ مبعدون، لما كرم الله الإنسان الأول فتمرد أكبرهم: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً* قَالَ اذْهَبْ
فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا* إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (62 - 65)
الإسراء.
وله أنبياء مرسلون، وعبادٌ مخيرون منذرون، وهم إما مؤمنون مكلفون، أو كفرةٌ، ظالمون مشركون.
ومجمل الخلق والكائنات: كل، وكلٌّ يعمل على شاكلته، وكلّ ما عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، لو يتدبر كبيرهم قبل صغيرهم.
وللكاف حضورٌ لا ككل الحروف، وهي كريمةُ كالنون، كاشفةٌ ومكمّلةٌ لها، لكنها متفردة في تشكلها ورسمها، ومن يكون في بداية التكوين كُن، ويتوسط
الملكوت يكون كذلك. فلها قوة الفعل والأمر، وهي لا ترضى بغير أعلى الحروف مكاناً ومكانةً، هناك في سقف الحلق، وسقف الكون.
إذاً هي بدايةٌ البدايات: الخلق والفعل والقول: كن، وهي كلمة، وكتابة: التدوين، والتخاطب بين الحضارات: كتب كتابةً وكتاباً، ونبينا المصطفى الأمين
صلوات الله وسلامه عليه كاتبَ كسرى، وقيصر بلسان عربي مبين، وحاور الكتابيين، وأول من خط بالقلم نبينا إدريس عليه السلام. وأكثر من عادى
الكتاب والكتابة التتار، وتبعهم بعد ذلك مرضى العرب بعد الاحتلال التركي/ العثماني في حالته «الرجل المريض»، فكمموا العقول والأفواه، وحاربوا
الكتابة، وتكريساً للجهل كان أول ما فعلوه في بغداد بعد سقوطها الأخير على يد الأمريكان إحراق المكتبات، والمتاحف ونهبها، وكسر زجاج بيت الحكمة،
أي نوره المعرفي وتاريخه المضيء.
ومن بحث في جمالها، فهداهُ ربه فقرأ (الكهف) و(الرحمن) كفتاه، وفي آية الكرسي، وفي آية هي النور كله في أعظم بيانٍ مشكاة. ومن رام إيقاعها
المطمئن فقرأ (الشرح) أغنتْه، والقرآن كله كريمٌ وكوثر.
وهي في أكثر الأفعال الناقصة كمالاً، في كان، فهو الفعل الأكثر حضوراً لدى البشر راوين ومستذكرين، ولدى من ينتابهم الكسل الذهني والفعلي
والحضاري، فله لدى بعض العرب في أيامهم هذه مكانة متقدمة، فقد كانوا، وكانوا، وكانوا سادة العالم، حتى اكتسحهم الخريف وهو يتوهمونه ربيعاً،
فكساهم حلة الوهن والضعف والتشرذم، وكبلهم تكبيلاً. ومن أسباب ذلك الركود والسكون، والركون إلى أعدائهم، والاتكاء على غيرهم، وقد حذر الله نبيه
من ذلك، فكيف بنا: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً*
إِذَاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا* وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً).
الإسراء 73-76.
وهي في المكان: هناك وهنالك، وأحب أماكنها البحر، فهي في الفلك، والمراكب، والأسماك، والشباك، والكنوز. وفي العدد والكثرة: كم، وفي التعجب:
كأيّن، وفي التشبيه والمقارنة والمقاربة: كريمٌ كنهر، وكأنّه ملك، لكنها ما عادت سلاح الشعراء الحديثين، فما عاد عالمهم استعارات وتشبيه، وهي في
الاستدراك لكنّ ولكنْ، وقد كثر استخدامها خاصة في قصائدهم القصيرة.
وهي للتعليل كي وكيما، وهي في الأسماء الناقصة: كأن، وفي الاستفهام: كيف، ولا تسأل اليوم عن أحوال الناس فتقول: كيف حالكم، فتحرجهم، ولا عن
أحوال الطقس الذي خربته أمريكا بالغازات، والسموم، وزرع العالم بالقنابل والمتفجرات عبر حروب لم تتوقف منذ الحرب العالمية، بل هي كلفةٌ
بالحروب منذ نشأتها داخلياً وخارجياً، من اليابان، إلى فيتنام إلى كوريا، إلى لبنان، إلى العراق، إلى أفغانستان، إلى ليبيا، إلى ما نتوقع أنه إيران. تستخدم
فيها الأسلحة المحرمة من النووي للنابالم إلى المنضب.
ويستخدم العدو غالباً سلاحاً أكثر فتكاً وهو كسر العزيمة، وإضعاف الهمة، وتشويه الهوية وإضعاف الشعور بها، وتهميش اللغة الأم، ولكنه يجابه بتمسك
الناس بالقرآن، وعاء الدين واللغة، فيستطيع كسب جولة، لكنه يظل قلقاً من الجولات المقبلة، فيستخدم كل مخزون كراهيته، ومكره: مكر الليل والنهار،
لزعزعة الأوطان، وتفتيتها، وتقسيمها، واستخدام الحروب والفتن الداخلية كبديل. (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) 46 إبراهيم.
وبعيداً عن السياسة والحروب، لننظر لجمال حضور الكاف في الآية السابقة لها، وكذلك المعنى العميق: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ
لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) إبراهيم 45.
جميلةٌ هي العربيةُ، وجميلة هي الكاف، أليس كذلك؟!
وهي في الكنه، والنكهة: نكهة القهوة والشعر، تكبر وتكتنزُ بالشعر، وتكحل عينيها للشعراء، وها هي كمنجاتها تصدح بعزف الأخطل الصغير بشارة
الخوري:
عش أنت إني مُتُّ بعدَكْ/ وأطل الى ما شئتَ صدَّكْ. ما كان ضَرَّكَ لو عدلتَ/ أما رأتْ عيناكَ قدَّكْ. وجعلتَ من جفني متكأً/ ومن عينيَّ مهدك.
يا من أساء بيَ الظّنونَ/ ثلمتني وثلمتَ حدَّك. إنْ لم يكن أدبي، فخلقكَ كان أولى أنْ يصدّك. أغضاضة يا روض إنْ/ أنا شاقني فشممتُ وردكْ؟
ونحن أينما التفتنا أدركناها شعراً، وحكمةً لدى العرب: وهبك اتقيت سهام الحياة/ فمن سهم حتفك أين المفر؟!، كم منزلٍ في الأرض يعشقهُ الفتى، وكفى
بكَ داءً أن ترى الموت شافيا، وما كل ما يتمنى المرء يدركه، وكل ابن أنثى وإنْ طالتْ سلامته، وغير ذلك كثيرٌ فهل من مدّكر؟!
وقد اشتهر الشعر الجاهلي بالبكاء على الأطلال، وهو اليوم يبكي الأوطان، ومنها فلسطين المباركة التي ستعود بحول رب العالمين، وفيها كرمل وكروم،
وشجرةٌ مباركة، والكرملُ مجلة ثقافية أذهلتنا كنوزها، وقد أسسها الراحل درويش فغدتْ علَماً، والقضية لدى بعض الفلسطينيين «كضيّة»، وقد تشعبت
وكثرت ملفاتها وتكدّست، حتى تنكر للحماس فتحٌ، وفتح مختصرٌ لحركة التحرير الفلسطينية حتف، فعكسوه، وهذا يعكس ذكاء العقل الفلسطيني الذي محا
الأمية قبل غيره من الدول ذات الكيانات المستقلة، وكان ذلك أصوب وأقرب، {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (13) سورة
الصف.
والركْن الجند والجيش، وجيوشنا منهكةٌ دون حروب أو فتوح، فحروبنا على أنفسنا، مع أننا في أمس الحاجة للبناء والتكاتف، لا للفرقة والنكوص
والانكسار.
والأكنة الأغطية، وعلى قلوب الناس كافة أكنةٌّ، إلا قلوب الأنقياء الأتقياء المؤمنين.
وللكفوف راح، تقترن بالكرَم: (ألستم خير من ركب المطايا/ وأندى العالمين بطونَ راحِ). وتجارة الكلام هذه الأيام أذى، لا كرم فيها ولا نبل، تصيب
الأمة في مقتل، عبر إثارة الفتن، والتفتيت، والتحريض، فليتهم يكفّون، أو تكسر أقلامهم.
ولدينا في شرقنا الذي غرب الكوفة، وللكوفة مدرستها العبقرية كما البصرة، عندما كانت العقول تفكر فتكتب التاريخ، وتكتسح بنورها الظلام والجهل،
وتركز راية حضارتها الخلاقة أينما قادتْ الجغرافيا.
والمسك الختام أشير إلى أنني قطفتُ هذه الكاف من كواكبها المكتنزة بالمعرفة ولم أكتبها إلا لكَ، ولكِ، ولكم، ولكُنّ يا أهلي ويا كوْني.. يا أحباب العربية
الخالدة الماجدة.
الله أكبر. وسبحان الله الذي بيده ملكوت* كل شيء وبحمده. {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (286) سورة البقرة.
* قال ابن كثير: ( الملك والملكوت واحد في المعنى، كرحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت، ومن الناس من زعم أن الملك هو عالم
الأجسام، والملكوت هو عالم الأرواح.. ).
- التفاصيل
- الزيارات: 3078
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ* هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) 22- 23 الحشر.
الهاء بهاء، سبحان مخرجها ومنزلها ومجريها سلسة هامسة منبهة نابهة. وها هي أمامي أنهار شعرٍ وبهجة وهديل:
هي: في (طه) و(كهيعص) رسمان مختلفان الله أعلم بمرادهما، وهي في الهدى، وهي في الاستهلال البداية والنهل، وقد هدى الله الإنسان النجدين، وبيّن
له طريقهما، وهي في الوجه والوجهة والجبهة والهامة والنهر وهالات النور والنهار وكلها بدايات حياة وطريق خير وشموخ وعزّة، وهي في النهاية،
أحسن الله النهايات.
وهي في النُّهَى، ومن يفهم يشقى في نعيمِه، لكنه يسعدُ في النهاية، وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ كما رأى المتنبي، وهي في النهْي، والنهي أمْر. والأمرُ
بالمعروف، والمعروف الشهادتان، والأمر والنهي لا يتأتيان ولا يثمران إلا بالحسن واللين والرفق، والحكمةِ، والموعظة الحسنة، والنهْر قاسٍ، وكثرته مع
النشء تولّد القهر والانكسار وضعف الشخصية. وقهر الرجال والظلم يقودان إلى التمرد والثورات: ?فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ? 9- 10
الضحى، خطابٌ للنبيّ العربيّ الأمين، وهو سيّد البشر، وأعظمهم وأكرمهم خلُقا، صلوات الله وسلامه عليه.
ومن هباتها الهوية والأهل، وها هو الشنفري في لاميّته يقرّبهم تقريباً مهيباً:
هم الأهل لا مستودع السرّ ذائعٌ/ لديهم وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْذَلُ.
ومن لعناتها الهاوية، وشفا جرفٍ هارٍ، وهي كالنون والكاف تنثر جمالها، وتُثري عبر لهجات القبائل العربيّة، فهي لغة القرآن، وهو لغة العرب: ?فأمه
هاوية* وما أدراك ما هيه* نارٌ حامية؟ القارعة، و؟مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ* خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا
سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ؟ الحاقة.
والمحببات الجميلات في الأهل لهنّ هالة، وبهنّ هناء، ومنهن غزالٌ ذو هيَف، كلف به الحصري القيرواني، فطال ليله كأن ما بعده إصباح، ومنهنّ هيفاء،
ورهف، وهند، وهن أغصان حسان، وهبةٌ من السماء لمن حولهنّ.
والهاء للغةِ كالماءِ للحياة، ورغم أنها رقيقةٌ هادئةٌ كالهمس، إلا أنها حاضرة في كل خطاب مهما علت لهجته، وفي كل جملة تقريباً مهما قصرت. وهي في
نظري من فصيلة الحاء، بل هما توأمان، إلا أن غصونها أعلى وأرَقّ، فهما من متشابهٍ، وغير متشابهٍ من الشجر.
وأعز ما لدى العرب بعد دينهم هويّتهم ولغتهم التي تنزل بها القرآن، ولكن بعضهم استهانوا بها، وركنوها، وركنوا إلى غيرها واهمين، فهزلت مشيتهم
وبيانهم، وتاهت خطاهم، وضاعت أرضهم، وهدروا ماء وجوههم أمام الغريب المتشبث بلغته ومشيته وهدفه، فاستهان بهم وأذلّهم، لأنه لا يميّزهم، ولا
يعرف أغربانٌ من أمامه أمْ حمَام.
ومن أهم شجرها ضمائر الغائبِ* حيث السحر حاضر، وهي فارهةٌ مهيبةٌ مهيمنةٌ لكنها قريبة في الوقت نفسه من هموم الناس: فهي هاربةٌ من ناره، وهو
هاربٌ من ظلمته إلى نورها، وهما في مفازة وتيه، وهم على مأساتهما شهودٌ، وهنّ لا يأبهْنَ بهِ ولا بها. وهي للتنبيه، فهي في أسماء الإشارة: فهذا همام،
وهذه مهرة، وهذان مهرجان لا جدوى منهما، وهاتان مهاجرتان مهجّرتان، وهؤلاء مهادنون لا يهددون الأمن والسلامة، أو هرمون لا طاقة لهم على
الهجرة، ولا طاقة بهم.
وهي هُنا، وهِنّا، وهَنّا. وللمتنبي:
وَخَيْلٍ حَشَوْنَاهَا الأسِنّةَ بَعدَمَا
تكَدّسنَ من هَنّا عَلَيْنَا وَمن هَنّا
وهَنّت، فهي الإشارة للمكان، وكل من هو هنا يريد هناك، فإذا ما وصل إلى هناك حنّ إلى هنا. يقول التميميّ مالك بن الريب في نهاية قصيدته الشهيرة،
راثياً نفسه، شاكياً غربته، وهو يرى النهاية دانية:
وبالرملِ منّي نسوةٌ لو شهدنني
بكين وفَدَّين الطبيبَ المُداويا
فمنهنّ أُمِّي وابنتاها وخالتي
وباكيةٌ أُخرى تهيجُ البواكيا
وما كان عهد الرمّل مني وأهله
ذميماً ولا ودّعْتُ بالرّملِ قاليا
وللرمل إبلُهُ، والهيم الإبل وهي الصبورة أنهكها وهدّها العطش.. وهو أهيم، وهي هيماء، والعاشق هائم وهيمان: دائم العطش لهواه، وإنْ صدّت، وتمنّعت
فهو تائه يأكله الهم والسهاد.
وأنت تسمو فتهب الحب والذهب، وتطلب، ولا ينقطع احتياجك للرب فتخضعُ فتقول: هب لي من لدنك رحمة، وإني لما تهبني اليوم فقير.. وكان موسى،
وهو النبي، لما ينزله إليه الرب من خير فقير.
والهارموني في الموسيقى والجسد والطبيعة والحياة، والهرمونات أس الحياة، والهباء الأعمال التي ينقصها الإيمان والإحسان، والهباء أيضاً كثيرٌ مما
نطالعه اليوم، لا همَّ جمعِيّاً فيه، ولا هدى، ولا نكهةَ، ولا هارموني. والأفئدة إيمان ويقين ودماء، لكنها قد تكون هواء. وعلى ذكر الهواء فالناس تتذكر
الأكسجين وتتنكر للهيدروجين، ولولاه ما كان الماء.
والبناء بتعدد معانيه يحتاج إلى همم عالية ونهج، أما الهدم فسهل، ومن ذلك هدم جهود الآخرين، وهدم الحضارات والأوطان، وهو تخصص أمريكي/
إسرائيلي. والهدم سمة الحروب، وسود القلوب: وليس الذي يبني كمن شأنه الهدمُ، يتبعه اليوم النهب عبر مهزلة إعادة الإعمار.
والكريهة الحرب، والحروب قصفت أعمارنا، وما زالت نارها تبحث عن مزيد، وأهلنا لا يستمعون لحكيمهم زهير:
وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ
وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً
وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا
وَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ
كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُغِلُّ لأَهْلِهَا
قُرَىً بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَمِ
وهي ملهمةٌ للشعراء، تهبهم الانهمار، ويهبونها هيئتها الأبهى عبر رسمها وتعدد أشكالها، وهمسها وجمال تكرارها، وأنا لم أقرأ جمالاً لتوهجها لديهم
كجمالها هذا، ولا رقة في بث الهوى عبرها كما بث هنا:
إنَّ التي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّها
خلقت هواكَ كما خلقتَ هوىً لها
فِيكَ الذي زعمتْ بِها وكلاكُما
يُبْدِي لصاحِبه الصَّبابَة َ كُلَّها
وَيَبِيتُ بينَ جَوانِحي حُبٌّ لها
لو كانَ تحتَ فِراشِها لأَقَلَّها
ولعمرها لو كان حبّك فوقها
يوماً وقد ضحِيَتْ إذاً لأظلّها
وإِذا وَجَدْتَ لها وَساوِسَ سَلْوَةٍ
شَفَعَ الضميرُ إلى الفؤادِ فَسَلَّها
بَيْضاءُ باكَرها النعيمُ فَصاغَها
بلباقَةٍ فأَدَقَّها وأَجَلَّها
لمَّا عَرَضْتُ مُسَلِّماً لِيَ حاجَةٌ
أرجو معونتَها وأخشى ذلّها
حجَبتْ تحيَّتَها فقلتُ لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلّها
فدنا فقالَ: لعلّها معذورةٌ
من أَجْلِ رِقْبَتِها فَقُلْتُ لَعَلَّها
وهي لعروة بن أذينة: «وهو شاعر غزل مقدم من شعراء أهل المدينة، وهو معدودٌ في الفقهاء والمحدثين روى عنه مالك بن أنس وعبيد الله بن عمر
العدوي»**
أبعد هذا، كل هذا، نُتهم بالهمجية، لا والله، فإننا أرق الخلْق، وألطفهم خلُقا، وأنبلهم، وألطفهم شعراً ونطقا.
هذا ما هبط عليّ من سمائها، ونهلتُ من مائها، فلزم التنويه عنه، فهلمّوا هلمّوا ها بيانيَهْ.
* حول معاني (الهاء) التراثية: (الهاء) لدى الأنطاكي في محيطه على ثلاثة أوجه:
أ- أن تكون ضميراً للغائب، وتستعمل في موضعي الجر والنصب كقوله تعالى: ؟قال له صاحبه وهو يحاوره؟.
ب- أن تكون حرفاً للغيبة، وهي (الهاء) في (إياه).
ج- أن تكون للسكت. وهي حرف ساكن يلحق أواخر بعض الكلمات عند الوقف عليها، نحو: (وازيداه). وربما وصلوها، كقول المتنبي: (واحرَّ قلباهُ مِمَّن قَلبُه شبِمُ..).
ولكن هذه المعاني الفقيرة ل (الهاء) واستعمالاتها التراثية المحدودة لا تكشف لنا عن السبب الحقيقي الذي جعل العربي يضعها في صدارة ضمائر الغائب:
لقد وضع العربي (الهاء) في مقدمتها جميعاً؛ وذلك للإفادة من خاصية الاهتزاز في صوتها، إثارة لانتباه السامع إلى ما يقصده المتكلم ممن لا حضور له
من إنسان أو حيوان أو جماد. وقد أضاف (الواو) ذات الفعالية الصوتية إلى (الهاء) للغائب المفرد، دعماً لها في إثارة الانتباه. أما الغائبة فقد أضاف لها
(الياء) غضاً للصوت عن الأنثى وتقليلاً من شأنها في مواجهة الغائب. وذلك على مثال ما خص (تاء) المخاطبة في (أنتِ) بالكسرة.
(حروف المعاني بين الأصالة والحداثة- حسن عباس/ دراسة- من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق2000)
** أبو الفرج الأصفهاني/ الأغاني.
- التفاصيل
- الزيارات: 3334
حرف الجيم حميم، ففيه ياءٌ وميم، وله كالأرض جغرافيا وجهات، والجهات للجنوبيين
الجنوب، حيث الدفء وخلاص القلوب من هم الجيوب. وهو جمالٌ وجنة من العزيز الجبار
جلّ جلاله الذي لما جاء نصره، دخل الناس في دينه أفواجا. والله جميلٌ يحب الجمال، وجميلةٌ
هي الحياةُ، وجوادٌ هو الوقتُ للجادين المجتهدين المنجزين المنتجين، الميالين للتجويد
والإجادة، ومن جدّ وجد، وقد لا يحالفه الحظ فلا ينجح فيبقى له حسن السعي. والشجعان
يواجهون، وعلَمهم جعفربن أبي طالب الطيار الذي ما أسقط راية المجد والعلَم، فله جناحان
في الجنة، والجبناء يولون الدبر، وجبانُ الأجانب والعلوج دجاجة. وجبانٌ هو اللؤم، جبناء هم
اليهود، والمنافقون المغتابون، فلا يقاتلون إلا من وراء جدر، ولا يجابهون الوجوه المضيئة
بالحق والإيمان بشجاعةٍ، وجهاً لوجه.
وجنةٌ هي المبتغى والمشتهى والمنتهى المأمول، وجنات هي المسعى، وجنان هم الأهل مهما تجاوزوا، وعزيزةٌ هي الأوطان مهما جارت. والعزةُ جبين،
والجمال جيد يطوقه الماس والياسمين. والسجدةُ خشوعٌ وخضوعٌ ويقين، وأمانٌ وسلام، وانقيادٌ واستسلام. وهي تصحيحُ سهوٍ، واعترافٌ بربانيةٍ وملكوت.
أما ما عدا ذلك فجحيم.
والجمال كالحب والشعر لا تعريف محدد له، فهو يشعّ من الداخل للخارج، ومن الخارج على الداخل.. فيصبح نسبيّاً وخاصاً بكل إنسان، وبكلّ ميل وقول.
ومن الجمال الحسنُ، وهو مجلوبٌ وغيرُ مجلوبٍ لدى المتنبي سيّد الشعر: حُسْن الحضارةِ مَجلُوبٌ بِتَطْرِيةٍ/ وفي البداوةِ حُسْنٌ غَيرُ مَجلُوبِ.
والخارج ليس دائما حسب ما نصطفي ونريد، لكننا نتعامل معه وفق ميولنا، وما يمليه ضميرنا، وما تختاره ذائقتنا، وهناك خارج قريبٌ، وخارجٌ بعيد،
وفضاءٌ خارجيّ. وهناك أماكن الداخل فيها مفقود، والخارج منها مولود. وأوّل خروجنا من ظلمات ثلاث، من داخل الأم إلى نور وجهها وحنانها، وكف
عنايتها ورعايتها بعد عناية الإله.
والشعراء والمبدعون في كل فن يخرجون عن المألوف، وأول الخارجين منهم في ثقافتنا الصعاليك الكبار كالشنفرى وعروة.
والناس تخرج على وليّ الأمر الظالم، أما الخروج على العادل فمحرمٌ ولو كان رأسه زبيبة.
وأكثر الإعلانات الإنسانية التي تشدنا، وتحرك إنسانيتنا هي تلك التي عن الذي: خرج ولم يعد. وهي ترسم مأساة مجتمعات لا فرق فيها بين الشرق
والغرب، فهي غربة إنسانٍ في داخله، وغربة مجتمعاتٍ وأوطان. والخروجُ في سبيل الله جهاد جائزته شهادةٌ أو نصر، والخروج عن الملة إلحاد،
والخروج مع قرين السوء شر، والجلوس إلى قرين الخير خير: فكلّ قرينٍ بالمقارن يقتدي. والخراج ليس ببعيد عن الخروج، فهو العائد مما تخرجه
الأرض من خيرات وثمار.
والجود عربي القسمات، وجوادهم الأقرب حاتم الطائي: فأقسمت، لا أمشي إلى سر جارةٍ/ مدى الدهر، ما دام الحمام يغردُ.
ولا أشتري مالاً بِغَدْرٍ عَلِمْتُهُ/ألاكلّ مالٍ، خالَطَ الغَدْرُ، أنكَدُ. إذا كانَ بعضُ المالِ رَبّاً لأهْلِهِ/ فإنّي، بحَمْدِ اللَّهِ، مالي مُعَبَّدُ.
وأكرم الحيوانات الجياد، وجوادها الجواد العربي، وجواد الفتوحات، كريم مسوّم. والصّافناتُ جياد. والعاديات، الموريات، المغيرات، المثيرات،
المتوسطات جياد. وامرؤ القيس من أوائل من تأملها ورسمها: مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معا/ كجلمود صخرٍ حطّهُ السيلُ من علِ. ومن الجلاميد إلى الحجارة،
والحجارة مقرونةٌ عندي بكفرة اليهود، ومن ذلك قصة موسى مع الحجر، وثورة الحجارة ضدهم، حيث أدمتهم حجارة الأطفال والنساء، فجيّشوا جيوشهم،
وأظهروا كل قوتهم وبطشهم لقمع الإنسان على أرضه، وفوقهم قويٌّ جليل جلّت قدرته، يمهل ولا يهمل.
والرجل جواد كما أسلفنا ووجيه ونجيب، والمرأة جود، وجليلة وجميلة، وهي جمانة وجوهرة، ولدى الإنجليز جود Jude وهي أشهر من غُنيَ لها عبر
جون لينون، وبول مكارتني، وفرقتهم الخنافس التي غزت العالم في الستينات، ولديهم جُون على وزن moon القمر، وجوانا، والأشهر في أذهان
الجمهور جِلّ عبر الفيلم جاك وجِلّ، أما السيدتان المثيرتان للجدل عبر تاريخهم الحديث فجاكلين بوفييه كينيدي أوناسيس زوجة الرئيس والملياردير،
ومازجةُ الأعراق، وممثلتهم جين فوندا الناشطة السياسية، المناهضة لحربي فيتنام والعراق. ومن الإنس شياطين، أعوذ بالله من كل شيطانٍ رجيمٍ من الجِنّةِ
والناس، أما الجنّ فمنهم كافرٌ ومؤمنٌ، ولهم سورةٌ، ومن أجمل قول مؤمنيهم، وقد سمعوا قرآناً عجبا: (وأنه تعالى جدّ ربّنا ما اتّخذَ صاحبةً ولا ولدا).
والجيمُ مهادنةٌ، لكنها قد تكون مشاكسةً، ومن مشاكساتها جيم جدّةَ الشهيرة، ومع ذلك هي محبةٌ للعلم، والجَبْرُ خير شاهد، وهو وليد الحضارة العربية
الإسلامية. والجهلُ عكس العلم، وأعظمه جهل النفس، والجاهل عدوّ نفسه، وللجاهليّ جهلُ آخر، هو مزيجٌ من أنَفةٍ وحميّةٍ وعنادٍ وشجاعة، كجهلِ عمْرو
بن أمّ كلثوم: ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا/ فنجهلُ فوق جهلِ الجاهلينا. والجيم طَموحٌ لا تؤمن بالتخصص، فلها من كل بحر قطرة، ومن بحور الأدب لها
جواهر الأدب الذي قرأناه صغاراً، ولها في الشعر واحد من أجمل شعراء العربية، وأرقّهم رغم هجائيّاته، وهل يخفى جرير على محبٍّ للشعر، ولها في
الرواية جون شتاينبك صاحب عناقيد الغضب، وجورج أورويل صاحب 1948، ومزرعة الحيوان.
هكذا هي الجيم حميمةٌ دافئة مانحة كجمر وجداول القصيدةِ، وقريبةٌ كجدائل الحبيبة، ومهيبةٌ كالجبال، وهي مثل المحبّ النبيل: تجبر الكسر بمعنييه الحسي
والمعنوي، فتجبر الخاطر.
رواه ابنُ جبر. رحم الله جبرَ بنِ جابرٍ، فلعطرهِ رُسِمتْ هذه الجيم، ورحم أمواتَنا، وأمواتَ المسلمين، وهيأَ لنا من أمرِنا رشَدَا، وجعلَ لنا منه يسْراً
ومخرجَا.