أول الخلق والكون كلمة، أولها كاف: كن فيكون. فكان الكون. كوّنَهُ مَنْ كرسيّهُ على الماء، الملك المتكبر
الكبير الشكور الحكيم الكريم المليك الشاكر
المالك الوكيل الحكم الأكرم، له الكبرياء في السموات والأرض، وله الملك في الدنيا والآخرة، ما كان له
صاحبةٌ ولا ولد، له ملائكة مطيعون، وشياطين
كفرةٌ مبعدون، لما كرم الله الإنسان الأول فتمرد أكبرهم: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً* قَالَ اذْهَبْ
فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا* إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (62 - 65)
الإسراء.
وله أنبياء مرسلون، وعبادٌ مخيرون منذرون، وهم إما مؤمنون مكلفون، أو كفرةٌ، ظالمون مشركون.
ومجمل الخلق والكائنات: كل، وكلٌّ يعمل على شاكلته، وكلّ ما عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، لو يتدبر كبيرهم قبل صغيرهم.
وللكاف حضورٌ لا ككل الحروف، وهي كريمةُ كالنون، كاشفةٌ ومكمّلةٌ لها، لكنها متفردة في تشكلها ورسمها، ومن يكون في بداية التكوين كُن، ويتوسط
الملكوت يكون كذلك. فلها قوة الفعل والأمر، وهي لا ترضى بغير أعلى الحروف مكاناً ومكانةً، هناك في سقف الحلق، وسقف الكون.
إذاً هي بدايةٌ البدايات: الخلق والفعل والقول: كن، وهي كلمة، وكتابة: التدوين، والتخاطب بين الحضارات: كتب كتابةً وكتاباً، ونبينا المصطفى الأمين
صلوات الله وسلامه عليه كاتبَ كسرى، وقيصر بلسان عربي مبين، وحاور الكتابيين، وأول من خط بالقلم نبينا إدريس عليه السلام. وأكثر من عادى
الكتاب والكتابة التتار، وتبعهم بعد ذلك مرضى العرب بعد الاحتلال التركي/ العثماني في حالته «الرجل المريض»، فكمموا العقول والأفواه، وحاربوا
الكتابة، وتكريساً للجهل كان أول ما فعلوه في بغداد بعد سقوطها الأخير على يد الأمريكان إحراق المكتبات، والمتاحف ونهبها، وكسر زجاج بيت الحكمة،
أي نوره المعرفي وتاريخه المضيء.
ومن بحث في جمالها، فهداهُ ربه فقرأ (الكهف) و(الرحمن) كفتاه، وفي آية الكرسي، وفي آية هي النور كله في أعظم بيانٍ مشكاة. ومن رام إيقاعها
المطمئن فقرأ (الشرح) أغنتْه، والقرآن كله كريمٌ وكوثر.
وهي في أكثر الأفعال الناقصة كمالاً، في كان، فهو الفعل الأكثر حضوراً لدى البشر راوين ومستذكرين، ولدى من ينتابهم الكسل الذهني والفعلي
والحضاري، فله لدى بعض العرب في أيامهم هذه مكانة متقدمة، فقد كانوا، وكانوا، وكانوا سادة العالم، حتى اكتسحهم الخريف وهو يتوهمونه ربيعاً،
فكساهم حلة الوهن والضعف والتشرذم، وكبلهم تكبيلاً. ومن أسباب ذلك الركود والسكون، والركون إلى أعدائهم، والاتكاء على غيرهم، وقد حذر الله نبيه
من ذلك، فكيف بنا: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً*
إِذَاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا* وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً).
الإسراء 73-76.
وهي في المكان: هناك وهنالك، وأحب أماكنها البحر، فهي في الفلك، والمراكب، والأسماك، والشباك، والكنوز. وفي العدد والكثرة: كم، وفي التعجب:
كأيّن، وفي التشبيه والمقارنة والمقاربة: كريمٌ كنهر، وكأنّه ملك، لكنها ما عادت سلاح الشعراء الحديثين، فما عاد عالمهم استعارات وتشبيه، وهي في
الاستدراك لكنّ ولكنْ، وقد كثر استخدامها خاصة في قصائدهم القصيرة.
وهي للتعليل كي وكيما، وهي في الأسماء الناقصة: كأن، وفي الاستفهام: كيف، ولا تسأل اليوم عن أحوال الناس فتقول: كيف حالكم، فتحرجهم، ولا عن
أحوال الطقس الذي خربته أمريكا بالغازات، والسموم، وزرع العالم بالقنابل والمتفجرات عبر حروب لم تتوقف منذ الحرب العالمية، بل هي كلفةٌ
بالحروب منذ نشأتها داخلياً وخارجياً، من اليابان، إلى فيتنام إلى كوريا، إلى لبنان، إلى العراق، إلى أفغانستان، إلى ليبيا، إلى ما نتوقع أنه إيران. تستخدم
فيها الأسلحة المحرمة من النووي للنابالم إلى المنضب.
ويستخدم العدو غالباً سلاحاً أكثر فتكاً وهو كسر العزيمة، وإضعاف الهمة، وتشويه الهوية وإضعاف الشعور بها، وتهميش اللغة الأم، ولكنه يجابه بتمسك
الناس بالقرآن، وعاء الدين واللغة، فيستطيع كسب جولة، لكنه يظل قلقاً من الجولات المقبلة، فيستخدم كل مخزون كراهيته، ومكره: مكر الليل والنهار،
لزعزعة الأوطان، وتفتيتها، وتقسيمها، واستخدام الحروب والفتن الداخلية كبديل. (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) 46 إبراهيم.
وبعيداً عن السياسة والحروب، لننظر لجمال حضور الكاف في الآية السابقة لها، وكذلك المعنى العميق: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ
لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) إبراهيم 45.
جميلةٌ هي العربيةُ، وجميلة هي الكاف، أليس كذلك؟!
وهي في الكنه، والنكهة: نكهة القهوة والشعر، تكبر وتكتنزُ بالشعر، وتكحل عينيها للشعراء، وها هي كمنجاتها تصدح بعزف الأخطل الصغير بشارة
الخوري:
عش أنت إني مُتُّ بعدَكْ/ وأطل الى ما شئتَ صدَّكْ. ما كان ضَرَّكَ لو عدلتَ/ أما رأتْ عيناكَ قدَّكْ. وجعلتَ من جفني متكأً/ ومن عينيَّ مهدك.
يا من أساء بيَ الظّنونَ/ ثلمتني وثلمتَ حدَّك. إنْ لم يكن أدبي، فخلقكَ كان أولى أنْ يصدّك. أغضاضة يا روض إنْ/ أنا شاقني فشممتُ وردكْ؟
ونحن أينما التفتنا أدركناها شعراً، وحكمةً لدى العرب: وهبك اتقيت سهام الحياة/ فمن سهم حتفك أين المفر؟!، كم منزلٍ في الأرض يعشقهُ الفتى، وكفى
بكَ داءً أن ترى الموت شافيا، وما كل ما يتمنى المرء يدركه، وكل ابن أنثى وإنْ طالتْ سلامته، وغير ذلك كثيرٌ فهل من مدّكر؟!
وقد اشتهر الشعر الجاهلي بالبكاء على الأطلال، وهو اليوم يبكي الأوطان، ومنها فلسطين المباركة التي ستعود بحول رب العالمين، وفيها كرمل وكروم،
وشجرةٌ مباركة، والكرملُ مجلة ثقافية أذهلتنا كنوزها، وقد أسسها الراحل درويش فغدتْ علَماً، والقضية لدى بعض الفلسطينيين «كضيّة»، وقد تشعبت
وكثرت ملفاتها وتكدّست، حتى تنكر للحماس فتحٌ، وفتح مختصرٌ لحركة التحرير الفلسطينية حتف، فعكسوه، وهذا يعكس ذكاء العقل الفلسطيني الذي محا
الأمية قبل غيره من الدول ذات الكيانات المستقلة، وكان ذلك أصوب وأقرب، {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (13) سورة
الصف.
والركْن الجند والجيش، وجيوشنا منهكةٌ دون حروب أو فتوح، فحروبنا على أنفسنا، مع أننا في أمس الحاجة للبناء والتكاتف، لا للفرقة والنكوص
والانكسار.
والأكنة الأغطية، وعلى قلوب الناس كافة أكنةٌّ، إلا قلوب الأنقياء الأتقياء المؤمنين.
وللكفوف راح، تقترن بالكرَم: (ألستم خير من ركب المطايا/ وأندى العالمين بطونَ راحِ). وتجارة الكلام هذه الأيام أذى، لا كرم فيها ولا نبل، تصيب
الأمة في مقتل، عبر إثارة الفتن، والتفتيت، والتحريض، فليتهم يكفّون، أو تكسر أقلامهم.
ولدينا في شرقنا الذي غرب الكوفة، وللكوفة مدرستها العبقرية كما البصرة، عندما كانت العقول تفكر فتكتب التاريخ، وتكتسح بنورها الظلام والجهل،
وتركز راية حضارتها الخلاقة أينما قادتْ الجغرافيا.
والمسك الختام أشير إلى أنني قطفتُ هذه الكاف من كواكبها المكتنزة بالمعرفة ولم أكتبها إلا لكَ، ولكِ، ولكم، ولكُنّ يا أهلي ويا كوْني.. يا أحباب العربية
الخالدة الماجدة.
الله أكبر. وسبحان الله الذي بيده ملكوت* كل شيء وبحمده. {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (286) سورة البقرة.
* قال ابن كثير: ( الملك والملكوت واحد في المعنى، كرحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت، ومن الناس من زعم أن الملك هو عالم
الأجسام، والملكوت هو عالم الأرواح.. ).