(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ* هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) 22- 23 الحشر.
الهاء بهاء، سبحان مخرجها ومنزلها ومجريها سلسة هامسة منبهة نابهة. وها هي أمامي أنهار شعرٍ وبهجة وهديل:
هي: في (طه) و(كهيعص) رسمان مختلفان الله أعلم بمرادهما، وهي في الهدى، وهي في الاستهلال البداية والنهل، وقد هدى الله الإنسان النجدين، وبيّن
له طريقهما، وهي في الوجه والوجهة والجبهة والهامة والنهر وهالات النور والنهار وكلها بدايات حياة وطريق خير وشموخ وعزّة، وهي في النهاية،
أحسن الله النهايات.
وهي في النُّهَى، ومن يفهم يشقى في نعيمِه، لكنه يسعدُ في النهاية، وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ كما رأى المتنبي، وهي في النهْي، والنهي أمْر. والأمرُ
بالمعروف، والمعروف الشهادتان، والأمر والنهي لا يتأتيان ولا يثمران إلا بالحسن واللين والرفق، والحكمةِ، والموعظة الحسنة، والنهْر قاسٍ، وكثرته مع
النشء تولّد القهر والانكسار وضعف الشخصية. وقهر الرجال والظلم يقودان إلى التمرد والثورات: ?فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ? 9- 10
الضحى، خطابٌ للنبيّ العربيّ الأمين، وهو سيّد البشر، وأعظمهم وأكرمهم خلُقا، صلوات الله وسلامه عليه.
ومن هباتها الهوية والأهل، وها هو الشنفري في لاميّته يقرّبهم تقريباً مهيباً:
هم الأهل لا مستودع السرّ ذائعٌ/ لديهم وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْذَلُ.
ومن لعناتها الهاوية، وشفا جرفٍ هارٍ، وهي كالنون والكاف تنثر جمالها، وتُثري عبر لهجات القبائل العربيّة، فهي لغة القرآن، وهو لغة العرب: ?فأمه
هاوية* وما أدراك ما هيه* نارٌ حامية؟ القارعة، و؟مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ* خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا
سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ؟ الحاقة.
والمحببات الجميلات في الأهل لهنّ هالة، وبهنّ هناء، ومنهن غزالٌ ذو هيَف، كلف به الحصري القيرواني، فطال ليله كأن ما بعده إصباح، ومنهنّ هيفاء،
ورهف، وهند، وهن أغصان حسان، وهبةٌ من السماء لمن حولهنّ.
والهاء للغةِ كالماءِ للحياة، ورغم أنها رقيقةٌ هادئةٌ كالهمس، إلا أنها حاضرة في كل خطاب مهما علت لهجته، وفي كل جملة تقريباً مهما قصرت. وهي في
نظري من فصيلة الحاء، بل هما توأمان، إلا أن غصونها أعلى وأرَقّ، فهما من متشابهٍ، وغير متشابهٍ من الشجر.
وأعز ما لدى العرب بعد دينهم هويّتهم ولغتهم التي تنزل بها القرآن، ولكن بعضهم استهانوا بها، وركنوها، وركنوا إلى غيرها واهمين، فهزلت مشيتهم
وبيانهم، وتاهت خطاهم، وضاعت أرضهم، وهدروا ماء وجوههم أمام الغريب المتشبث بلغته ومشيته وهدفه، فاستهان بهم وأذلّهم، لأنه لا يميّزهم، ولا
يعرف أغربانٌ من أمامه أمْ حمَام.
ومن أهم شجرها ضمائر الغائبِ* حيث السحر حاضر، وهي فارهةٌ مهيبةٌ مهيمنةٌ لكنها قريبة في الوقت نفسه من هموم الناس: فهي هاربةٌ من ناره، وهو
هاربٌ من ظلمته إلى نورها، وهما في مفازة وتيه، وهم على مأساتهما شهودٌ، وهنّ لا يأبهْنَ بهِ ولا بها. وهي للتنبيه، فهي في أسماء الإشارة: فهذا همام،
وهذه مهرة، وهذان مهرجان لا جدوى منهما، وهاتان مهاجرتان مهجّرتان، وهؤلاء مهادنون لا يهددون الأمن والسلامة، أو هرمون لا طاقة لهم على
الهجرة، ولا طاقة بهم.
وهي هُنا، وهِنّا، وهَنّا. وللمتنبي:
وَخَيْلٍ حَشَوْنَاهَا الأسِنّةَ بَعدَمَا
تكَدّسنَ من هَنّا عَلَيْنَا وَمن هَنّا
وهَنّت، فهي الإشارة للمكان، وكل من هو هنا يريد هناك، فإذا ما وصل إلى هناك حنّ إلى هنا. يقول التميميّ مالك بن الريب في نهاية قصيدته الشهيرة،
راثياً نفسه، شاكياً غربته، وهو يرى النهاية دانية:
وبالرملِ منّي نسوةٌ لو شهدنني
بكين وفَدَّين الطبيبَ المُداويا
فمنهنّ أُمِّي وابنتاها وخالتي
وباكيةٌ أُخرى تهيجُ البواكيا
وما كان عهد الرمّل مني وأهله
ذميماً ولا ودّعْتُ بالرّملِ قاليا
وللرمل إبلُهُ، والهيم الإبل وهي الصبورة أنهكها وهدّها العطش.. وهو أهيم، وهي هيماء، والعاشق هائم وهيمان: دائم العطش لهواه، وإنْ صدّت، وتمنّعت
فهو تائه يأكله الهم والسهاد.
وأنت تسمو فتهب الحب والذهب، وتطلب، ولا ينقطع احتياجك للرب فتخضعُ فتقول: هب لي من لدنك رحمة، وإني لما تهبني اليوم فقير.. وكان موسى،
وهو النبي، لما ينزله إليه الرب من خير فقير.
والهارموني في الموسيقى والجسد والطبيعة والحياة، والهرمونات أس الحياة، والهباء الأعمال التي ينقصها الإيمان والإحسان، والهباء أيضاً كثيرٌ مما
نطالعه اليوم، لا همَّ جمعِيّاً فيه، ولا هدى، ولا نكهةَ، ولا هارموني. والأفئدة إيمان ويقين ودماء، لكنها قد تكون هواء. وعلى ذكر الهواء فالناس تتذكر
الأكسجين وتتنكر للهيدروجين، ولولاه ما كان الماء.
والبناء بتعدد معانيه يحتاج إلى همم عالية ونهج، أما الهدم فسهل، ومن ذلك هدم جهود الآخرين، وهدم الحضارات والأوطان، وهو تخصص أمريكي/
إسرائيلي. والهدم سمة الحروب، وسود القلوب: وليس الذي يبني كمن شأنه الهدمُ، يتبعه اليوم النهب عبر مهزلة إعادة الإعمار.
والكريهة الحرب، والحروب قصفت أعمارنا، وما زالت نارها تبحث عن مزيد، وأهلنا لا يستمعون لحكيمهم زهير:
وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ
وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً
وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا
وَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ
كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُغِلُّ لأَهْلِهَا
قُرَىً بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَمِ
وهي ملهمةٌ للشعراء، تهبهم الانهمار، ويهبونها هيئتها الأبهى عبر رسمها وتعدد أشكالها، وهمسها وجمال تكرارها، وأنا لم أقرأ جمالاً لتوهجها لديهم
كجمالها هذا، ولا رقة في بث الهوى عبرها كما بث هنا:
إنَّ التي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّها
خلقت هواكَ كما خلقتَ هوىً لها
فِيكَ الذي زعمتْ بِها وكلاكُما
يُبْدِي لصاحِبه الصَّبابَة َ كُلَّها
وَيَبِيتُ بينَ جَوانِحي حُبٌّ لها
لو كانَ تحتَ فِراشِها لأَقَلَّها
ولعمرها لو كان حبّك فوقها
يوماً وقد ضحِيَتْ إذاً لأظلّها
وإِذا وَجَدْتَ لها وَساوِسَ سَلْوَةٍ
شَفَعَ الضميرُ إلى الفؤادِ فَسَلَّها
بَيْضاءُ باكَرها النعيمُ فَصاغَها
بلباقَةٍ فأَدَقَّها وأَجَلَّها
لمَّا عَرَضْتُ مُسَلِّماً لِيَ حاجَةٌ
أرجو معونتَها وأخشى ذلّها
حجَبتْ تحيَّتَها فقلتُ لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلّها
فدنا فقالَ: لعلّها معذورةٌ
من أَجْلِ رِقْبَتِها فَقُلْتُ لَعَلَّها
وهي لعروة بن أذينة: «وهو شاعر غزل مقدم من شعراء أهل المدينة، وهو معدودٌ في الفقهاء والمحدثين روى عنه مالك بن أنس وعبيد الله بن عمر
العدوي»**
أبعد هذا، كل هذا، نُتهم بالهمجية، لا والله، فإننا أرق الخلْق، وألطفهم خلُقا، وأنبلهم، وألطفهم شعراً ونطقا.
هذا ما هبط عليّ من سمائها، ونهلتُ من مائها، فلزم التنويه عنه، فهلمّوا هلمّوا ها بيانيَهْ.
* حول معاني (الهاء) التراثية: (الهاء) لدى الأنطاكي في محيطه على ثلاثة أوجه:
أ- أن تكون ضميراً للغائب، وتستعمل في موضعي الجر والنصب كقوله تعالى: ؟قال له صاحبه وهو يحاوره؟.
ب- أن تكون حرفاً للغيبة، وهي (الهاء) في (إياه).
ج- أن تكون للسكت. وهي حرف ساكن يلحق أواخر بعض الكلمات عند الوقف عليها، نحو: (وازيداه). وربما وصلوها، كقول المتنبي: (واحرَّ قلباهُ مِمَّن قَلبُه شبِمُ..).
ولكن هذه المعاني الفقيرة ل (الهاء) واستعمالاتها التراثية المحدودة لا تكشف لنا عن السبب الحقيقي الذي جعل العربي يضعها في صدارة ضمائر الغائب:
لقد وضع العربي (الهاء) في مقدمتها جميعاً؛ وذلك للإفادة من خاصية الاهتزاز في صوتها، إثارة لانتباه السامع إلى ما يقصده المتكلم ممن لا حضور له
من إنسان أو حيوان أو جماد. وقد أضاف (الواو) ذات الفعالية الصوتية إلى (الهاء) للغائب المفرد، دعماً لها في إثارة الانتباه. أما الغائبة فقد أضاف لها
(الياء) غضاً للصوت عن الأنثى وتقليلاً من شأنها في مواجهة الغائب. وذلك على مثال ما خص (تاء) المخاطبة في (أنتِ) بالكسرة.
(حروف المعاني بين الأصالة والحداثة- حسن عباس/ دراسة- من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق2000)
** أبو الفرج الأصفهاني/ الأغاني.