أعراف
- التفاصيل
- الزيارات: 2566
خيال!!
أسألكِ الله أجيبي
هل كنت حميماً؟!
أم كنت قديماً مثل خيالٍ
مثل جبالٍ ترمق عن بعدٍ
يا أجمل ما في القولِ: حبيبي
يا فطنة عمرٍ شتته الأوغاد أجيبي
بالله أجيبي
هل كنت كفنجانِ القهوةِ كلّ صباح
ملّ الكفَّ
استاءَ من الأقداحْ؟!
هل كان الشعرُ جميلاً كجبينكِ
كالنخلِ الناعسِ في عينيك
الوردِ بخدٍّ يحمرُّ على خجلٍ
أم كان مملاً وكسولاً
كنواحٍ يُفضي لنواحْ؟!
هل كان البيتُ العربيّ أنيقاً؟!
هل كنت أنيقاً؟!
أضواءَ فَراشٍ من نارٍ
أمطاراً من عزفِ بيانو
أعوادَ الدهشة من صنعاء لبغداد الحزنِ الأبيضِ
فسحة أطفالٍ وبراحْ.
أسألكِ الله، وبالأسماء الحسنى
يا معنى
يا مفردةً مبتدأً من نسجٍ عربيٍّ
أو ما شئت المستثنى
يا من أمنعه حين أحنّ من الصرف
وأصرفه حين أُجنّ
شِمالٌ يبحث عن يمنى
هل تهتُ البارحةَ قليلاً
هل أهديتك من أشعاري الليلكَ يا لبنى
هل ألقيت على كتفيك من الرفق وشاحاً؟!
يا للكتفين، ويا لوشاحْ.
الطفلُ يسائلني
والموجة تلوَ الموجة تغزوني،
ماذا أفعلُ من دوني؟
مفتونٌ وكسيرُ جناحْ.
والقلبُ يؤنبني
هل تذكرُ؟
لا أذكرُ
هل تعرفُ؟
لا أعرفُ
أشباحٌ وأزيزُ رياحْ.
المزنُ بروحي
والهمّ العربيّ جروحي
أحلامُ الجنةِ.. والتفاحْ.
- التفاصيل
- الزيارات: 4659
دمُ الدّال
الحروف دمُ اللغةِ وعروقُها، والدّال حديدُ هذا الدم، فهي قوية ثابتة، كركنٍ مجيد، وكأني أراها دعائمَ للكلام، ومقاعد للأحرف اللاهثة، لكن قوتها لا تنفي رقتها، فهي أيضاً كالخدّ والورد.
ومن اللافت أن المدن التي احتضنت الدعوة، وساهمت في نشرها، مرتبطة بالدال كخرز السبحة، فلدينا مكة: البلد، فالمدينة، فالقدس، ثم مراكز الخلافة وانتشار الدين: بغداد، ودمشق، والأندلس، ولدينا عدن، ولدينا في النهاية جنات عدن: فأي جمالٍ أروع من هذا الحضور الطاغي الأخّاذ الذي ننقاد له انقياداً؟!
ولنعد للبدء، لكلمات الله التي لو كان البحرُ مداداً لها لنفِد البحر قبلَ أن تنفَد، فالذي يقرأ سور الإخلاص والجن والكهف لا بدّ أن يتوقف عند حرف الدال وعجائبه لساعات، ولمرات ومرات، إن كان ممن وهبهم الله باباً على الإعجاز الفني في القرآن، وممن يرتلون القرآن ترتيلاً، فيتوقفون عند معانيه ومبانيه.
ونلتفت للضفة الأخرى، ضفة الشعر، ونتأملُ فنسألُ: أليس من الطريف أنّ عروة بن الورد يقسم جسمه في جسومٍ كثيرةٍ، ويحسو قراح الماء، والماءُ باردُ، وأنّ معلقة طرفة بن العبد دالية، وأن يكون دعبل الخزاعي سيداً بداله الشهيرة هذه:
الحمدُ لِلّهِ لا صَبرٌ ولا جَلَدُ
ولا عزاءٌ إذا أهلُ البلاَ رقدُوا
خَليفَةٌ ماتَ لم يَحزن لَهُ أَحدُ
وآخرٌ قامَ لم يفرح بهِ أحدُ
فمرَّ هذا ومرَّ الشؤمُ يتبعهُ
وقامَ هذا، فقامَ الشؤمُ والنَّكدُ
وهذه، وهي أكثر عمقاً وتأصيلاً:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلّهمُ
اللهُ يَعلَمُ أَنّي لَم أَقُل فَنَدا
إني لأفتحُ عيني حين أفتحها
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا
وهو هنا تحديداً غير بعيدٍ عن شواطئ سورة الجن، بل هو مبحرٌ فيها إيقاعياً، تمعنوا في هذا الجمال، جمال القرآن وجمال الدال، يقول الحميد المجيد المبدئ المعيد:
(وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا )، (وأنّه تعالى جدّ ربنا ما اتّخذ صاحبةً ولا ولدا)، (وأنّا لا ندري أشرٌّ أّريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربّهم رشدا)،
(وأنّا منا الصالحون ومنّا دون ذلك كنّا طرائقَ قِدَدا)، (قل إن أدري أقريبٌ ما توعدون أم يجعلُ له ربي أمَدا )، (وأنّه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَدا). جمالٌ لا حدود له، وبيانٌ لا وجود لمثله: الله أكبر.
وتمتد الدال، وتثمر في كل اتجاه، فهي في الدِّين، وهو دنيا وآخرة، ووعد ووعيد، والدَّين وهو الحساب لدى الدّيّان الذي تدِين له الخلائق، والمسجد وهو الحاضن للدعوة والدعاء، ومما يميزنا أن الأرض لنا مسجد، وجُعل لنا منها صعيدٌ طيبٌ طهور، وصفوفنا كصفوف الملائكة. ولدينا في مراتب الشرف التدوين، ودار الحكمة، والشهادة، وخالد بن الوليد، والقادسية، وسعد بن أبي وقاص.
والزمن يدور، وكذلك تفعل الكواكب، فكل في فلك يسبحون، والعجلة تدور، فتدور عجلة الحضارة، والدوري طائر جميل، والدرّ أجمل لدى النساء، والدرر في الأدب والجواهر، والديك أكثر أناقة من الدجاجة، وما نشهده اليوم في العالم صراع دِيكة.
وهي في البلدان الهند والسند، وفي الأديان اليهودية، وكفرة اليهود، عليهم دائرة السوء، اغتصبوا قدس المسلمين وفلسطين.. وعاثوا فيهما فساداً. وهي في الخيول الجرد، وفي الرجال المرد، وفي السيوف المهنّد، فإذا شُنت الغارات جُرّدت من أغمادها، لكن لحظ الجميلة لدى الشعراء أشدّ فتكاً:
كلّ السيوف قواطعٌ إن جُرّدت
وحسامُ لحظك قاتلٌ في غِمدِه
وهي في الدّور الأعمدة والجدران، ومن بنى الدّار وسكنها ديّار، وفي العماد، وعماد الجيوش الجند والعدة والعتاد، وهي في النقود الدرهمُ والدينار، والنقد أكثر تدوالاً هذه الأيام، لكن الشرع سبق فحدّد سبل تداوله {كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء}.
والدال دم القصيدة، وندى الوردة، والدال الندم، لكنها السعد والسعادة، وهذا من الندى الشعبيّ للشاعر الكبير د. المقالح: «المهم أنت يا احوَم/ لا تصدّق فتندم/ كلنا في الهوى دَم/ كلنا أولاد آدَم».
- التفاصيل
- الزيارات: 2407
جلدٌ جميلُ المحيا كاملٌ ورع/ وللحروب غداة الروع مسعارُ
تلك هي عظيمتنا الخنساء ، السحابة المانحة، ولو كان دمعاً، لكنه دمع الحزن النبيل، والشعر الرفيع في رثاء حمال الألوية أخيها صخر. وهذه هي اللام في تكرارها الشجيّ سبع مرات، وكأنما هو ديدن اللام، ولا أعظم من تكرارها في لفظ الجلالة: الله، فسبحان الله. وهي في الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. صلى الله عليه وسلم. وهي في هذا البيان والجمال والجلال والإخلاص: ( قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يَلد* ولم يُولد* ولم يكن له كفواً أحد ). وهي في الخالق والخلق، وفي البيت، وآل البيت، وأهل البيت. واللام شمسيةٌ وقمريةٌ إلا لدى أهل العراق الذين يقلبون استخدامهما، فيخلطون الليل بالنهار. واللام كائنٌ يحب الحركة والإيقاع، كما في الليل والليالي، والليلك واللغة، واللؤلؤ واللآلئ، ونستلطف ونستظرف ونحب ذلك فنخفف: ونسمي ونقول: لولو.. للإنسان الغالي، للمرأة الغالية العالية.. كما نسمي ونصف المعرفة، والصديق، والعالِم بالكنز.
ومن المفيد أن نقول هنا إن اللؤلؤ مختلف عن كل ثمينٍ غالٍ، من حيث المنشأ والولادة، فهو نبيل النبع والأصل، فموطنه البحار والمحيطات، وحضنه وداره الصدف، خلاف الذهب والألماس اللذيْن يُستخرجان من التربة والكربون.
واللام جميلة في إيقاعها، وتزداد جمالاً في تكرارها، كما في أعلاه، فنحصل على لوحات فنية منغّمة، كما هي الحال في أخواتها النون، والميم، وهي سهلة على اللسان، وجميلةٌ في كل مواضعها سواء أكانت تعليلاً أو توكيداً أو نهياً أو نفياً، ومن ذلك هذا الثناء العالي للفرزدق على الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وهو ابن ابنة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، فاطمة الزهراء، فجدّه محمد الأمين:
ما قال: لا قطّ إلا في تشهّدِهِ/ لولا التشهّد كانت لاءَهُ نعمُ.
ومن جمالها النهل فالتوق للعَلل، ومن سلسبيلها الغزل الذي يذيب أهل الهوى فيهيمون، ويقتربون من الجنون، ولا أشهر من ليلى ومجنونها ابن الملوّح:
أَلَيسَ اللَيلُ يَجمَعُني وَلَيلى/ كَفاكَ بِذاكَ فيهِ لَنــــا تَداني.
تَرى وَضَحَ النَهارِ كَما أَراهُ/ وَيَعلوها النَهارُ كَما عَلاني.
وها هي اللام رفيقة العشاق في تكرارها البديع لدى جميل بثينة: أصلّي فأبكي في الصلاة لذكرها/ لي الويلُ مما يكتبُ الملكانِ. غفر الله له، ولها، ولنا.
وأنا ميال في لغتي وشعري لهذا التكرار الذي ينثال فطرياً، وعبر الدربةِ: ففي مرثية سارة: فلا تقلقي، لا تخافي على/ سلالتــك الحرة النادرة. وفي ملاك: اجلسي يا شقيّهْ/ واخلطي الأحرفَ العاليات برأسي/ والعبي باللغةْ/ كي تكون القصيدةُ موّالَ عينيكِ/ عاليةً وبهيّةْ/ نسّقتها يداكْ.
وفي المرثية الرابعة: مشيــــــتُ فلا أهلاً حلَلْتُ ولا سهلاَ/ وعِشتُ فلا حيّاً، ومتّ فلا أبلَى.
واللام في العقل والعلم والعمل والفعل، وهنا الكمال: ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ). العلم به، والعمل به، وتعليمه والتواصي به، والصبر على كل ذلك.
وهي في التمني: لو، وليت، وفي الإذعان والانقياد والطاعة والقبول: لبيك اللهم لبيك، وهي في التجنّي: ظلْم، وفي التأنّي: حلْم.
وهي في المثنّى: اللذان واللتان، وهي مخاتلةٌ في اللهو واللعب والهزل، وقاتلةٌ في الاستكانة والذل، وعاليةٌ في الجد والحدّ والنزال والقتال والمطاولة والصولات والجولات والبطولات. وهي طويلةٌ في البذل والنخل، والنخلةُ لِينة، قليلةٌ في البخل، عليلة في الهواء، ثقيلةٌ في الملل، كحيلةٌ في العيون، مليحةٌ في الوجه، نبيلةٌ في الُّلُحمة التي نسألها الله لأهلنا ولأمتنا في هذه الظروف والمحنِ القاتلة، والمؤامرات اللعينة.
وما كلّ نعَمٍ بنعْمةٍ، بل قد تكون النقْمة بعينها، وحينها تكون لا ضروريةً ومطلوبةً، وهي كذلك في هذه الأوقات العصيبة تحديداً، فلا للاحتلال والحروب والعدوان، ولا للديمقراطيات الزائفة، ولا للفوضى الخلاقة بزعمهم، ولا للظلم، ولا للقتل والأسر، لا لتعذيب الأسرى، ولا للسجن دون جريمة، ولا لسجون الحرية والآراء، ولا لتكميم العقل والأفواه، ولا للاغتيال، لا لكاتم الصوت كما قال الفنان ناجي العلي فاغتيل، ولا للكراهية والحقد، ولا للاعتقال والقتل على الهوية، ولا للتزييف والتعطيل والتسويف، ولا لاضطهاد العمالة، ولا للفتنة بكل أشكالها، ولا للعصبية القبلية، ولا للطائفية، ولا كبيرة مريرةٌ لتمزيق الأمة بثورات العنف والجهل، تمهيداً لتخريبها واحتلالها عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، أو إلحاقها بهذا الحلف أو ذاك.
بقي أنْ نقول إنّ النهلَ هو الشرب الأول، أما العَلَلُ فالتشراب الثاني، وها هو الشاعر المختلف مظفر النوّاب، اتفقنا معه أم اختلفنا، بعد أن نهَلَ واعتلّ: تعلّلَ فالهوى عَلَلُ/ وصادفَ أنّهُ ثمِلُ.
هكذا هي اللغة العربية الأعلى والأغلى، لذلك نجد قرآنها مرتلاً ترتيلاً، ونجد بيانها، وخطابها وشعرها، مموسقاً في ذاته، لتناغم حروفها، وعبقرية وتناسق رسمها وبنيانها، ولذلك فُضلتها على لغات العالم تفضيلاً جليلا، ونمَتْ في داخلي كروماً ونخيلا، فتأملت فيها تأملاً طويلا، وقرّبتها وقبّلتها تقبيلا، وأقمت في ظلالها العمر: بكرةً وأصيلا، وامتدحتها مديحاً عالياً نبيلا، ولمْ أكُ بهايوماً على أهلي بخيلا، نذراً عليّ لا أرى في غيرها بديلا:
قلت هذي هي العربية تسعى إليّ وتشكو
فقبّلت مهجتها, وأخذت برفقٍ يديها،
وأجلستها فوق روحي،
فسالت جروحي،
وفاض المدادُ بأنبلِ ما يصطفيهِ الفؤادْ.
* بوح الذاكرة والقلب بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية 23/1/1433.
- التفاصيل
- الزيارات: 4303
في الغرفة الأضيق من ذات البخيل، والأوسع من خيال الشعراء، على كرسي صغير على شاعر كبير بحجم فواز عيد قال لي:
اكتب
واقرأ
واستعن بالإضافة، ونحّ أحرف التشبيه!!
اكتب ما تعرف، وتشعر به وتحب
واقرأ ما لا تعرف .. تعلّم
قدمت له (صبا) كوب ماء. كان دائم العطش. كنت قد كتبت حينها (صبا تسكن السابعة).. وأهديتها إلى (بندر) الأخ الأصغر للراحل صالح العزاز، وكان في المستشفى.
قال فواز: فضاؤك جميل، وصبا جميلة، والقصيدة خطوة جميلة.
أشعل روحك بالشعر، المهم الروح.
كان حديثه عذبا ودافئاً ومشجعاً.
وكنت مندهشاً بعوالمه، وبطريقة حديثة.
كان معلماً هامساً.
وكان إذا قرأ الشعر، ينصت لنفسه، يقرأ لنفسه.. يغني لنفسه
هكذا تماماً كما يكتب الشعر.
لا فرق بين قصيدة فواز وفواز.
شاعرٌ حمل بالفعل روحه على راحتيه.
وعندما سافر عائداً إلى المستشفى، ترك لي الباب مفتوحاً على عالم الشعر والأسئلة، عالم المرارة والعذوبة والجمال. وترك لي وصلاً للاستلام من إذاعة الرياض، ولم يتمكن من تحصيله هومبلغٌ زهيد لشاعر كبير.. لعائلة فلسطينية كبيرة لم تعرف غير المخيم ملاذا. ولكنه كان يقيها برودة المخيم.
كنا نتهاتف، وكان حينها يكتب زاوية لليمامة تشبه عنوانها (مطر ومصابيح).
ثم جمعتنا لقاءات تفصلها السنوات، مرة في دمشق مع عبدالله الصيخان، دفعنا سيارته (الفولكس ويجن) العتيقة وازدحمنا بها، وذهبنا إلى الرائع ممدوح عدوان صاحب (أمي تطارد قاتلها) (وتلويحة الأيدي المتعبة) ونهر من الأغاني وأشجار الابداع المتنوعة:
(كنا نتجول في الصحراء
عطشى نبحثُ عن قطرة ماء
حين أتتنا طائرة الأعداء
قصفتنا قصفتنا قصفتنا
فتفجر نبع الماء)
من يستطيع أن يقول اليوم، ومن كان يستطيع قول هذا الشعر الناقد النافذ الجريء؟!
الله. أيها (المدافع عن الجنون).. يا عدوان!!
بعد سنين جاء فواز إلى الرياض، إلى الوطن والأصدقاء الذين أحبهم وأحبوه. وفي شقتي المتواضعة الأوسع من ذات البخلاء قرأت له (العبسي يحاصر الذاكرة).
كان سعيداً قال: الله.. كبرت يا محمد.. قلت له: تلميذك يا أستاذ.
أصدر بعدها ديوانين: الأشياء حتى النصف، ومن فوق أنحل من أنين. ضممتهما إلى باقي أشجار حديقته: في شمسي دوار، وأعناق الجياد النافرة، المجموعة التي لم تعد لي منذ خطفتها بعد ذاك يدُ لم تحفظ العهد.
بينما خطفت الشاعر الأصيل بعد عمر من الجمال والحنين والغربة كشأن الشعراء الفلسطينيين، وكلّ فلسطيني روّض قسوة المنافي، وبنى فيها بيوتاً من الشعر، أو الكلام الجميل، وحدائق من عذابات الروح وجمالها.
خطفته يد المنون كما لامسها ذلك الشاعر الجاهلي، ولامس ربيعها.
ومع ذلك ترك لنا يداً ملوّحة عرفنا تفاصيل وخطوط كفُها النديّة التي أخذت بأيدينا إلى عطر التاريخ، وجنان الحضارة الأصيلة، وتفاصيل الخضرة المستديمة.
يدا لا تشبه الأيادي، ما زالت تلوّح لأحبابها كما كان يهمس. وتعلو كما كان يعلو:
ستعود، الأرضُ ستعود.
تركت لكم، لبقية الرحلة، أشجار برتقال، وفل، وجوري، وياسمين.
وتركت لكم تعب النوافير.
وتركت لكم مدائن الشعر، وقرى متفتحة للكلام الذي لا يشبه الكلام، لغمام الأرواح ومطر القلوب.
تركت لكم كنزاً من المحبة، ونبعاً من الطيبة.
وخبأت لكم هناك خلف أشجار اللوز وصايا المقاومة..
وأولها الحب.. أمّا ما يسرّ الصديق ويغيظ العدا فهو هناك.. فاجتهدوا في البحث عنه.
هذا، كلّ هذا، قطرةُ من نبع فواز، وسنعود لنبعه، ونبع صاحبه الكبير ممدوح عدوان كما نهلتُ منها، وعّللت.
هي ينابيعُ الذاكرة لا تتسلق الجمال، بل تستعيده علّ ظامئاً ينهل.. ولعلّ أول الظامئين أنا.
ولعلنا بحاجة في هذا الوقت العصيب من تاريخنا الحديث، وكله صعبٌ ومالحٌ، عدا لحظات تجلّ وثبات، طردنا فيها الاستعمار من الباب، ليعود إلينا اليوم، لا من النافذة، بل من كل الجهات، وبكافة الوسائل، ليعود إلينا عبرنا.. يا لقمة الألم!!
بل نحن في حاجة إلى استعادة نماذج كثيرة وكبيرة على الصعيد الثقافي لترفدنا، وتزيل عن أعيننا غشاوات يتبارى مخربو الثقافة من أشباه مثقفين وإعلاميين وحواةٍ ومستسلمين وواهمين ابتكارها، وتكثيفها، وتلوينها لتكون لائقة بالعمى العميق الذي يريدون سحبنا إلى منافيه.
من هذه النماذج الواجبة الاستعادة فواز عيد، لأنه يذكرنا بنا، بقيمتها وقيمنا وحقوقنا وجمالنا وتفاصيلنا وأوطاننا التي نحاول التشبث بها، ويحاولون طمسها والغاءها.
يذكرنا أن الأوطان بخير إذا كنا بخير، وإذا كنا كبارا كما هي.. كما هو..
هنا، واختصاراً لدرب طويل سأقضيه مفتتناً بالراحل الحاضر. سأقتطف هذا الجزء من نثر فواز، من نور فواز وناره، من مقدمة كتابه «نهارات الدِّفلى».
يوميات حرب فلسطين عام 1948م.
فتمتعوا بهذا الجمال ولا تنسوا أوطانكم: (الدِّفلى)..
«أشجار الدفلى.. أشجار تشبهنا في حياتها.. وطباعها.. وعاداتها وتقاليدها..
إنها لعريقة عراقة الأنهار التي حفرت وديانها.. بين صخور «الأردن، واليرموك، والرقاد، ومجدّو..» لذا أثبتها الفيروزبادي في (القاموس المحيط)، والإمام الزبيدي في (تاج العروس) وابن منظور في (لسان العرب).
بل.. إن فيها روحاً عربياً.. قد ضل طريقه إلى جسد بدوي.. لينهض في شجيرة لدنة.. تتعشق الشمس.. وتزكو بها.. على حين تشير فروعها العالية إلى الواحات.. والينابيع.. والأنهار.. تشير إليها.. كلما هبت الريح التي تضمر الكلام القديم.. عن ذكريات وطنها الأول.. على ضفاف نهر الأردن.. أو اليرموك.. أو ضفاف بحيرات الوطن.. الحوله.. وطبرية.. وبحر أريحا.. إنها أشجار.. لا تملُّ من الحياة أبداً.. إذ أنها تتفتح مدى الفصول بلون الشهوة الغامقة.. أو لون السلام الأبيض.. أو.. ما بينهما من مزيج الأحمر والأبيض.. وهي أشجار تحتمل عصف الرياح المتعسفة.. فتميل معها كساحل من زهر.. ثم تستقيم بعد أن فوتت فرصة الاقتلاع على العاصفة العدوة.
وإنها بعد ذلك.. لتبقى على وجدها الأول.. لموطنها الأول.. مهما اغتربت.. وأينما انزرعت.. إذ تنفتح على السفوح.. وتحت نوافذ البيوت... وفي الحدائق الضيقة بين الدروب.. إلا أنها تهيج على ضفاف أنهار (فلسطين) أكثر ما تهيج.. لتشتعل حمرة في بعض السنين.. فتشتبك أزهارها فوق الأنهار.. حتى تمحو زرقة المياه ومراياها.. لتسيل فوقها نهراً فائزاً من الدماء الحارة..
وعند ذلك.. يتطلع الأباء إلى الآفاق.. توجساً من حرب أخرى.. أو جحفل من جحافل الغزاة.. الغزاة الذين تعود الآباء على رؤيتهم.. يطلون فيضربون بالسيف جذور الدِّفلى.. إلا أنها تظل تزهر.. ولا تموت أبداً.. حتى ولو انكشفت جذورها بمقدرة السيول في سنوات الفيضان..
إن أعجوبتها لتحدث عند انكشاف الجذور حين تتصلب هذه الجذور فجأة.. وتنمو في يوم وليلة.. وتمسك بلبَّ الأرض.. بمخالب قوية.. كمخالب النسور الأسطورية.
إنها لأشجار تشبهنا.. فوجهها يبذر الحب والضحكات.. وقامتها تتقن أية رقصة شرقية على إيقاع (الصبا أو غيره).
إلا أن دمها يقطر مدراً.. إذا جُرحت أعضاؤها.. أو انقطفت أوراقها.. حتى ان الفلاحين يضربون المثل بها.. (مرّ.. كالدفلى)..
إنها لأشجار.. تشبهنا.. تشبه بلك النهارات.. نهارات المرارة.. والجراح الفاقعة.. يوم ابتعد عنا الوطن قليلاً.. إلا أن أزهار (دفلانا) ما زالت تشير إليه بسير إلى وطن السحب.. ووطن «الدفلى».
ما رأيكم إذا بهذا النثر الفاره؟!
ميزة فواز أنه عندما أبدع شعراً في حبيبته، وعندما كان (فرحاً ومنثوراً على تتعب النوافير).
وعندما كان (بباب البساتين والنوم)، وعندما صفق مع الراقص في (دان.. دان).. لم ينس وطنه. وجراحه، ومأساة شعبه وبقية الشعوب العربية.
بل على العكس كانت مأساته مفجراً لكل طاقاته، ليكون إنساناً أعلى، وإنساناً أجمل، شاعراً وناثراً، ومؤرخاً، وباحثاً عن الجمال.
ليكون كبيراً لائقاً بالوطن.. وأهل الوطن.
والشاعر المميز لا ينبغي له أن يكون ناثراً سيئاً، ونضرب هنا مثلاً على شعره العالي، الشعر الذي قلنا إنه ليشبه فـواز في هدوئه، عمقه، صوته الخفيض، والنار التي يشعلها نحـته المضني لقصيدة حديثة، مختلفة، نائية، وقريبة. قصيدة هي أقرب إلى شجر المعرفة، وشجر الطبيعة، وشجر الروح.
وإذا كان عبد الله نور قد خلّد صديقه فـواز في ذاكرتنا عبر غنائه لقصائد الديوان الرائع ( أعناق الجياد النافرة ) فإنه لم تقع عيني على أية متابعة لديوانيه التاليين ( من فوق أنحل من أنين ) و ( بباب البساتين والنوم ) ... هنا أم هناك ، وسأتهم نفسي قبل إلقاء اللوم على واجهات الثقافة العربية التي انساقت كبقية منافذ الاتصال إلى ما يشبه الكارثة ، أو هي الكارثة بعينها .
أو التي أصابتها فيروسات النتاج الرديء، والربح السريع، والتهتك الذوقي والمعرفي.
وللتعرف على مزاج فواز الشعري يمكننا ان نقرأ هذه القصيدة الجميلة العذبة معاً ، ونبلّل أرواحنا بشعرٍ نادرٍ بعد رحيلٍ طويلٍ مريرٍ في متاهات ما لا يشبه الشعر أبداً :
الأشياء حتى النصف
مع من أتكلم؟؟
نصفُ الليلِ... ونصفُ الحبْ
نصف الأحباب مضوا
عادوا... من نصف الدربْ
مع من أتكلم
نصفُ الصيفِ
ومنتصفُ البابٍ المفتوحْ .
نصفُ الشهرِ العربيّ...
ونصف المئزرِ...
نصفُ الوجه على الشرفةِ
نصفُ الإفصاحِ..
ونصفُ التلميح المجروحْ.
نصفُ الذكرى
نصفُ الاطباقِ على الأسماءْ
نصف الظلماتِ..
ونصف شعاع برِّي
يأتي من نافذة عليا
في نصفِ جسدْ
نصف الأحزان..
ونصف الغبطةِ
من رجلٍ مبحوحٍ يسعلُ
وامرأةٍ تبكي في الميناءْ.
أنثى من نصف الأشياءْ .
أنثى من كمثرى و.....
ونهوضِ طيور من خزف
عن صفحةِ ماءْ.
أنثى قطراتٍ من ليمونْ .
مزقها جسدُ البحرِ المتوسطِ
ليل من أصدافٍ.. وظنونْ.
مع من أتكلمُ
يا امرأةً عليا
يا طفلا في أرجوحته العليا
ياسيد عزلته العليا.
مع من أتكلمُ بالفصحى
أو أشرحُهُ طوراً بالصمتِ
وطوراً بالإيماءْ .
مع من أتكلمُ
والأشياءُ هنا وهناك موزعةٌ
فمتى ترقى..
وتجمعُ شطريها الأشياء ؟!
مثل هذا الشعر لا يحتاج إلى تقديمٍ أو تقريبٍ أو أسئلةٍ أو إجابات . إنه تعب النوافير كما يقول فواز .
وهو انهمار المطر والفصحى والصمت والإيماء ..
إنه الشعر الصافي الخالص المخلِّص .
وهو وثـيقةٌ تقـول لنا إن شـاعراً عربـياً كبيراً مرّ من هنا ، ولـم يتـرك أذى ..
بل ترك روحه ، وعينيه الثاقبتين ، وأشجاراً مباركة حمل بذارها من أرض مباركة هي فلسطين ، وجراراً لا ينضب ماؤها ، ولا تندثر ألوانها ، تظلّ ترشح لتذكرنا بالتاريخ والجغرافيا وعطرها ...
وعطره ، عطر الشعر النادر الأصيل .
إنه الأشياء حتى النصف الموزّعة هنا وهناك ، وقد ارتقت وجمعت نصفيها على يد شاعرٍ عملاق.
إنه شعر فواز
و نهوض طيورٍ من خزفٍ عن صفحة ماء.