في الغرفة الأضيق من ذات البخيل، والأوسع من خيال الشعراء، على كرسي صغير على شاعر كبير بحجم فواز عيد قال لي:


اكتب
واقرأ
واستعن بالإضافة، ونحّ أحرف التشبيه!!
اكتب ما تعرف، وتشعر به وتحب
واقرأ ما لا تعرف .. تعلّم
قدمت له (صبا) كوب ماء. كان دائم العطش. كنت قد كتبت حينها (صبا تسكن السابعة).. وأهديتها إلى (بندر) الأخ الأصغر للراحل صالح العزاز، وكان في المستشفى.
قال فواز: فضاؤك جميل، وصبا جميلة، والقصيدة خطوة جميلة.
أشعل روحك بالشعر، المهم الروح.
كان حديثه عذبا ودافئاً ومشجعاً.
وكنت مندهشاً بعوالمه، وبطريقة حديثة.
كان معلماً هامساً.
وكان إذا قرأ الشعر، ينصت لنفسه، يقرأ لنفسه.. يغني لنفسه
هكذا تماماً كما يكتب الشعر.
لا فرق بين قصيدة فواز وفواز.
شاعرٌ حمل بالفعل روحه على راحتيه.
وعندما سافر عائداً إلى المستشفى، ترك لي الباب مفتوحاً على عالم الشعر والأسئلة، عالم المرارة والعذوبة والجمال. وترك لي وصلاً للاستلام من إذاعة الرياض، ولم يتمكن من تحصيله هومبلغٌ زهيد لشاعر كبير.. لعائلة فلسطينية كبيرة لم تعرف غير المخيم ملاذا. ولكنه كان يقيها برودة المخيم.
كنا نتهاتف، وكان حينها يكتب زاوية لليمامة تشبه عنوانها (مطر ومصابيح).
ثم جمعتنا لقاءات تفصلها السنوات، مرة في دمشق مع عبدالله الصيخان، دفعنا سيارته (الفولكس ويجن) العتيقة وازدحمنا بها، وذهبنا إلى الرائع ممدوح عدوان صاحب (أمي تطارد قاتلها) (وتلويحة الأيدي المتعبة) ونهر من الأغاني وأشجار الابداع المتنوعة:
(كنا نتجول في الصحراء
عطشى نبحثُ عن قطرة ماء
حين أتتنا طائرة الأعداء
قصفتنا قصفتنا قصفتنا
فتفجر نبع الماء)
من يستطيع أن يقول اليوم، ومن كان يستطيع قول هذا الشعر الناقد النافذ الجريء؟!
الله. أيها (المدافع عن الجنون).. يا عدوان!!
بعد سنين جاء فواز إلى الرياض، إلى الوطن والأصدقاء الذين أحبهم وأحبوه. وفي شقتي المتواضعة الأوسع من ذات البخلاء قرأت له (العبسي يحاصر الذاكرة).
كان سعيداً قال: الله.. كبرت يا محمد.. قلت له: تلميذك يا أستاذ.
أصدر بعدها ديوانين: الأشياء حتى النصف، ومن فوق أنحل من أنين. ضممتهما إلى باقي أشجار حديقته: في شمسي دوار، وأعناق الجياد النافرة، المجموعة التي لم تعد لي منذ خطفتها بعد ذاك يدُ لم تحفظ العهد.
بينما خطفت الشاعر الأصيل بعد عمر من الجمال والحنين والغربة كشأن الشعراء الفلسطينيين، وكلّ فلسطيني روّض قسوة المنافي، وبنى فيها بيوتاً من الشعر، أو الكلام الجميل، وحدائق من عذابات الروح وجمالها.
خطفته يد المنون كما لامسها ذلك الشاعر الجاهلي، ولامس ربيعها.
ومع ذلك ترك لنا يداً ملوّحة عرفنا تفاصيل وخطوط كفُها النديّة التي أخذت بأيدينا إلى عطر التاريخ، وجنان الحضارة الأصيلة، وتفاصيل الخضرة المستديمة.
يدا لا تشبه الأيادي، ما زالت تلوّح لأحبابها كما كان يهمس. وتعلو كما كان يعلو:
ستعود، الأرضُ ستعود.
تركت لكم، لبقية الرحلة، أشجار برتقال، وفل، وجوري، وياسمين.
وتركت لكم تعب النوافير.
وتركت لكم مدائن الشعر، وقرى متفتحة للكلام الذي لا يشبه الكلام، لغمام الأرواح ومطر القلوب.
تركت لكم كنزاً من المحبة، ونبعاً من الطيبة.
وخبأت لكم هناك خلف أشجار اللوز وصايا المقاومة..
وأولها الحب.. أمّا ما يسرّ الصديق ويغيظ العدا فهو هناك.. فاجتهدوا في البحث عنه.
هذا، كلّ هذا، قطرةُ من نبع فواز، وسنعود لنبعه، ونبع صاحبه الكبير ممدوح عدوان كما نهلتُ منها، وعّللت.
هي ينابيعُ الذاكرة لا تتسلق الجمال، بل تستعيده علّ ظامئاً ينهل.. ولعلّ أول الظامئين أنا.
ولعلنا بحاجة في هذا الوقت العصيب من تاريخنا الحديث، وكله صعبٌ ومالحٌ، عدا لحظات تجلّ وثبات، طردنا فيها الاستعمار من الباب، ليعود إلينا اليوم، لا من النافذة، بل من كل الجهات، وبكافة الوسائل، ليعود إلينا عبرنا.. يا لقمة الألم!!

بل نحن في حاجة إلى استعادة نماذج كثيرة وكبيرة على الصعيد الثقافي لترفدنا، وتزيل عن أعيننا غشاوات يتبارى مخربو الثقافة من أشباه مثقفين وإعلاميين وحواةٍ ومستسلمين وواهمين ابتكارها، وتكثيفها، وتلوينها لتكون لائقة بالعمى العميق الذي يريدون سحبنا إلى منافيه.
من هذه النماذج الواجبة الاستعادة فواز عيد، لأنه يذكرنا بنا، بقيمتها وقيمنا وحقوقنا وجمالنا وتفاصيلنا وأوطاننا التي نحاول التشبث بها، ويحاولون طمسها والغاءها.
يذكرنا أن الأوطان بخير إذا كنا بخير، وإذا كنا كبارا كما هي.. كما هو..
هنا، واختصاراً لدرب طويل سأقضيه مفتتناً بالراحل الحاضر. سأقتطف هذا الجزء من نثر فواز، من نور فواز وناره، من مقدمة كتابه «نهارات الدِّفلى».
يوميات حرب فلسطين عام 1948م.
فتمتعوا بهذا الجمال ولا تنسوا أوطانكم: (الدِّفلى)..
«أشجار الدفلى.. أشجار تشبهنا في حياتها.. وطباعها.. وعاداتها وتقاليدها..
إنها لعريقة عراقة الأنهار التي حفرت وديانها.. بين صخور «الأردن، واليرموك، والرقاد، ومجدّو..» لذا أثبتها الفيروزبادي في (القاموس المحيط)، والإمام الزبيدي في (تاج العروس) وابن منظور في (لسان العرب).
بل.. إن فيها روحاً عربياً.. قد ضل طريقه إلى جسد بدوي.. لينهض في شجيرة لدنة.. تتعشق الشمس.. وتزكو بها.. على حين تشير فروعها العالية إلى الواحات.. والينابيع.. والأنهار.. تشير إليها.. كلما هبت الريح التي تضمر الكلام القديم.. عن ذكريات وطنها الأول.. على ضفاف نهر الأردن.. أو اليرموك.. أو ضفاف بحيرات الوطن.. الحوله.. وطبرية.. وبحر أريحا.. إنها أشجار.. لا تملُّ من الحياة أبداً.. إذ أنها تتفتح مدى الفصول بلون الشهوة الغامقة.. أو لون السلام الأبيض.. أو.. ما بينهما من مزيج الأحمر والأبيض.. وهي أشجار تحتمل عصف الرياح المتعسفة.. فتميل معها كساحل من زهر.. ثم تستقيم بعد أن فوتت فرصة الاقتلاع على العاصفة العدوة.
وإنها بعد ذلك.. لتبقى على وجدها الأول.. لموطنها الأول.. مهما اغتربت.. وأينما انزرعت.. إذ تنفتح على السفوح.. وتحت نوافذ البيوت... وفي الحدائق الضيقة بين الدروب.. إلا أنها تهيج على ضفاف أنهار (فلسطين) أكثر ما تهيج.. لتشتعل حمرة في بعض السنين.. فتشتبك أزهارها فوق الأنهار.. حتى تمحو زرقة المياه ومراياها.. لتسيل فوقها نهراً فائزاً من الدماء الحارة..
وعند ذلك.. يتطلع الأباء إلى الآفاق.. توجساً من حرب أخرى.. أو جحفل من جحافل الغزاة.. الغزاة الذين تعود الآباء على رؤيتهم.. يطلون فيضربون بالسيف جذور الدِّفلى.. إلا أنها تظل تزهر.. ولا تموت أبداً.. حتى ولو انكشفت جذورها بمقدرة السيول في سنوات الفيضان..
إن أعجوبتها لتحدث عند انكشاف الجذور حين تتصلب هذه الجذور فجأة.. وتنمو في يوم وليلة.. وتمسك بلبَّ الأرض.. بمخالب قوية.. كمخالب النسور الأسطورية.
إنها لأشجار تشبهنا.. فوجهها يبذر الحب والضحكات.. وقامتها تتقن أية رقصة شرقية على إيقاع (الصبا أو غيره).
إلا أن دمها يقطر مدراً.. إذا جُرحت أعضاؤها.. أو انقطفت أوراقها.. حتى ان الفلاحين يضربون المثل بها.. (مرّ.. كالدفلى)..
إنها لأشجار.. تشبهنا.. تشبه بلك النهارات.. نهارات المرارة.. والجراح الفاقعة.. يوم ابتعد عنا الوطن قليلاً.. إلا أن أزهار (دفلانا) ما زالت تشير إليه بسير إلى وطن السحب.. ووطن «الدفلى».
ما رأيكم إذا بهذا النثر الفاره؟!
ميزة فواز أنه عندما أبدع شعراً في حبيبته، وعندما كان (فرحاً ومنثوراً على تتعب النوافير).
وعندما كان (بباب البساتين والنوم)، وعندما صفق مع الراقص في (دان.. دان).. لم ينس وطنه. وجراحه، ومأساة شعبه وبقية الشعوب العربية.
بل على العكس كانت مأساته مفجراً لكل طاقاته، ليكون إنساناً أعلى، وإنساناً أجمل، شاعراً وناثراً، ومؤرخاً، وباحثاً عن الجمال.
ليكون كبيراً لائقاً بالوطن.. وأهل الوطن.
والشاعر المميز لا ينبغي له أن يكون ناثراً سيئاً، ونضرب هنا مثلاً على شعره العالي، الشعر الذي قلنا إنه ليشبه فـواز في هدوئه، عمقه، صوته الخفيض، والنار التي يشعلها نحـته المضني لقصيدة حديثة، مختلفة، نائية، وقريبة. قصيدة هي أقرب إلى شجر المعرفة، وشجر الطبيعة، وشجر الروح.
وإذا كان عبد الله نور قد خلّد صديقه فـواز في ذاكرتنا عبر غنائه لقصائد الديوان الرائع ( أعناق الجياد النافرة ) فإنه لم تقع عيني على أية متابعة لديوانيه التاليين ( من فوق أنحل من أنين ) و ( بباب البساتين والنوم ) ... هنا أم هناك ، وسأتهم نفسي قبل إلقاء اللوم على واجهات الثقافة العربية التي انساقت كبقية منافذ الاتصال إلى ما يشبه الكارثة ، أو هي الكارثة بعينها .
أو التي أصابتها فيروسات النتاج الرديء، والربح السريع، والتهتك الذوقي والمعرفي.
وللتعرف على مزاج فواز الشعري يمكننا ان نقرأ هذه القصيدة الجميلة العذبة معاً ، ونبلّل أرواحنا بشعرٍ نادرٍ بعد رحيلٍ طويلٍ مريرٍ في متاهات ما لا يشبه الشعر أبداً :
الأشياء حتى النصف
مع من أتكلم؟؟ 
نصفُ الليلِ... ونصفُ الحبْ 
نصف الأحباب مضوا 
عادوا... من نصف الدربْ 
مع من أتكلم 
نصفُ الصيفِ 
ومنتصفُ البابٍ المفتوحْ . 
نصفُ الشهرِ العربيّ... 
ونصف المئزرِ... 
نصفُ الوجه على الشرفةِ 
نصفُ الإفصاحِ.. 
ونصفُ التلميح المجروحْ. 
نصفُ الذكرى 
نصفُ الاطباقِ على الأسماءْ 
نصف الظلماتِ.. 
ونصف شعاع برِّي 
يأتي من نافذة عليا 
في نصفِ جسدْ 
نصف الأحزان.. 
ونصف الغبطةِ
من رجلٍ مبحوحٍ يسعلُ 
وامرأةٍ تبكي في الميناءْ.
أنثى من نصف الأشياءْ .
أنثى من كمثرى و..... 
ونهوضِ طيور من خزف 
عن صفحةِ ماءْ. 
أنثى قطراتٍ من ليمونْ .
مزقها جسدُ البحرِ المتوسطِ 
ليل من أصدافٍ.. وظنونْ. 
مع من أتكلمُ 
يا امرأةً عليا 
يا طفلا في أرجوحته العليا 
ياسيد عزلته العليا. 
مع من أتكلمُ بالفصحى 
أو أشرحُهُ طوراً بالصمتِ 
وطوراً بالإيماءْ . 
مع من أتكلمُ 
والأشياءُ هنا وهناك موزعةٌ 
فمتى ترقى..
وتجمعُ شطريها الأشياء ؟!
مثل هذا الشعر لا يحتاج إلى تقديمٍ أو تقريبٍ أو أسئلةٍ أو إجابات . إنه تعب النوافير كما يقول فواز .
وهو انهمار المطر والفصحى والصمت والإيماء ..
إنه الشعر الصافي الخالص المخلِّص .
وهو وثـيقةٌ تقـول لنا إن شـاعراً عربـياً كبيراً مرّ من هنا ، ولـم يتـرك أذى ..
بل ترك روحه ، وعينيه الثاقبتين ، وأشجاراً مباركة حمل بذارها من أرض مباركة هي فلسطين ، وجراراً لا ينضب ماؤها ، ولا تندثر ألوانها ، تظلّ ترشح لتذكرنا بالتاريخ والجغرافيا وعطرها ...
وعطره ، عطر الشعر النادر الأصيل .
إنه الأشياء حتى النصف الموزّعة هنا وهناك ، وقد ارتقت وجمعت نصفيها على يد شاعرٍ عملاق.
إنه شعر فواز
و نهوض طيورٍ من خزفٍ عن صفحة ماء.