دمُ الدّال
الحروف دمُ اللغةِ وعروقُها، والدّال حديدُ هذا الدم، فهي قوية ثابتة، كركنٍ مجيد، وكأني أراها دعائمَ للكلام، ومقاعد للأحرف اللاهثة، لكن قوتها لا تنفي رقتها، فهي أيضاً كالخدّ والورد.
ومن اللافت أن المدن التي احتضنت الدعوة، وساهمت في نشرها، مرتبطة بالدال كخرز السبحة، فلدينا مكة: البلد، فالمدينة، فالقدس، ثم مراكز الخلافة وانتشار الدين: بغداد، ودمشق، والأندلس، ولدينا عدن، ولدينا في النهاية جنات عدن: فأي جمالٍ أروع من هذا الحضور الطاغي الأخّاذ الذي ننقاد له انقياداً؟!
ولنعد للبدء، لكلمات الله التي لو كان البحرُ مداداً لها لنفِد البحر قبلَ أن تنفَد، فالذي يقرأ سور الإخلاص والجن والكهف لا بدّ أن يتوقف عند حرف الدال وعجائبه لساعات، ولمرات ومرات، إن كان ممن وهبهم الله باباً على الإعجاز الفني في القرآن، وممن يرتلون القرآن ترتيلاً، فيتوقفون عند معانيه ومبانيه.
ونلتفت للضفة الأخرى، ضفة الشعر، ونتأملُ فنسألُ: أليس من الطريف أنّ عروة بن الورد يقسم جسمه في جسومٍ كثيرةٍ، ويحسو قراح الماء، والماءُ باردُ، وأنّ معلقة طرفة بن العبد دالية، وأن يكون دعبل الخزاعي سيداً بداله الشهيرة هذه:
الحمدُ لِلّهِ لا صَبرٌ ولا جَلَدُ
ولا عزاءٌ إذا أهلُ البلاَ رقدُوا
خَليفَةٌ ماتَ لم يَحزن لَهُ أَحدُ
وآخرٌ قامَ لم يفرح بهِ أحدُ
فمرَّ هذا ومرَّ الشؤمُ يتبعهُ
وقامَ هذا، فقامَ الشؤمُ والنَّكدُ
وهذه، وهي أكثر عمقاً وتأصيلاً:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلّهمُ
اللهُ يَعلَمُ أَنّي لَم أَقُل فَنَدا
إني لأفتحُ عيني حين أفتحها
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا
وهو هنا تحديداً غير بعيدٍ عن شواطئ سورة الجن، بل هو مبحرٌ فيها إيقاعياً، تمعنوا في هذا الجمال، جمال القرآن وجمال الدال، يقول الحميد المجيد المبدئ المعيد:
(وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا )، (وأنّه تعالى جدّ ربنا ما اتّخذ صاحبةً ولا ولدا)، (وأنّا لا ندري أشرٌّ أّريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربّهم رشدا)،
(وأنّا منا الصالحون ومنّا دون ذلك كنّا طرائقَ قِدَدا)، (قل إن أدري أقريبٌ ما توعدون أم يجعلُ له ربي أمَدا )، (وأنّه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَدا). جمالٌ لا حدود له، وبيانٌ لا وجود لمثله: الله أكبر.
وتمتد الدال، وتثمر في كل اتجاه، فهي في الدِّين، وهو دنيا وآخرة، ووعد ووعيد، والدَّين وهو الحساب لدى الدّيّان الذي تدِين له الخلائق، والمسجد وهو الحاضن للدعوة والدعاء، ومما يميزنا أن الأرض لنا مسجد، وجُعل لنا منها صعيدٌ طيبٌ طهور، وصفوفنا كصفوف الملائكة. ولدينا في مراتب الشرف التدوين، ودار الحكمة، والشهادة، وخالد بن الوليد، والقادسية، وسعد بن أبي وقاص.
والزمن يدور، وكذلك تفعل الكواكب، فكل في فلك يسبحون، والعجلة تدور، فتدور عجلة الحضارة، والدوري طائر جميل، والدرّ أجمل لدى النساء، والدرر في الأدب والجواهر، والديك أكثر أناقة من الدجاجة، وما نشهده اليوم في العالم صراع دِيكة.
وهي في البلدان الهند والسند، وفي الأديان اليهودية، وكفرة اليهود، عليهم دائرة السوء، اغتصبوا قدس المسلمين وفلسطين.. وعاثوا فيهما فساداً. وهي في الخيول الجرد، وفي الرجال المرد، وفي السيوف المهنّد، فإذا شُنت الغارات جُرّدت من أغمادها، لكن لحظ الجميلة لدى الشعراء أشدّ فتكاً:
كلّ السيوف قواطعٌ إن جُرّدت
وحسامُ لحظك قاتلٌ في غِمدِه
وهي في الدّور الأعمدة والجدران، ومن بنى الدّار وسكنها ديّار، وفي العماد، وعماد الجيوش الجند والعدة والعتاد، وهي في النقود الدرهمُ والدينار، والنقد أكثر تدوالاً هذه الأيام، لكن الشرع سبق فحدّد سبل تداوله {كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء}.
والدال دم القصيدة، وندى الوردة، والدال الندم، لكنها السعد والسعادة، وهذا من الندى الشعبيّ للشاعر الكبير د. المقالح: «المهم أنت يا احوَم/ لا تصدّق فتندم/ كلنا في الهوى دَم/ كلنا أولاد آدَم».
وهي دعد لدى دوقلة المنبجي:
لهفي على دعد وما خُلقت
إلا لفرط تلهفي دعدُ
وهي هند لدى عمر بن أبي ربيعة:
ليت هنداً أنجزتنا ما تَعد
وشَفَت أنفسنا مما تَجِد
واستبدت مرةً واحدةً
إنما العاجز من لا يستبد
وأنت تدعو صديقك وتدنيه لتبثه وجدك ومرادك، ثم تندم، فتحتدّ، فتقول له: دعني، وأنا بثثتكم وجدي، وحبي لهذه اللغة العظيمة، فلا تدعوني، ولا تدعوها أبداً، حتى وإن داهمكم الكسل، وأرقكم السهد، أبعد الله عنا وعنكم الوجع والكمد:
«وَجَعٌ مَلابِسُهُ حِياكَةُ نائمٍ
فَلئِن تَعَرّى
يُلمَح السوطُ المُعَلقُ وَحدَهُ.
وَجَعٌ تلبَّسَ نُطفَةً
ويَدٌ تُبدّلُ جِلدَهُ.
ولسيفِهِ سيفٌ
وَطَعنتُهُ تُمَزّقُ غِمدَهُ.
فكأنهُ في حَربِهِ
جَيشٌ يُقاتِلُ جُندَهُ.
وكأنهُ عَهدٌ عَليهِ حريقها
وكأنها خُلقت لِتنقُضَ عَهدَهُ.»*
***
-للشاعر كاتب المقال.