أعراف
- التفاصيل
- الزيارات: 789
الأجنحةُ الآسرَة
الجناحُ من الفعل جنَحَ، وهذا بعض ما طارَ إلينا به زاجلُ لسانِ العرب: «جنح: جنَح إليه يجنَح ويجنَح جُنوحاً، واجْتَنح: مال. ويقال: أقمت الشيء فاستقام. واجتنحتُهُ أي: أملْتُه فجنح؛ أي: مال. وقال الله عز وجل: (وإنْ جَنَحوا للسّلمِ فاجنَحْ لها) أي: إنْ مالوا إليك فمل إليها، والسلم: المصالحة، ولذلك أنثت، أي: إنْ مالوا إليك فمل إليها. ويقال: كأنه جُنْحُ ليلٍ يشبّه به العسكر الجرّار، وفي الحديث: (إذا استجنح الليلُ فاكفتوا صبيانكم) المراد في الحديث أول الليل.
وما يعنينا هنا هو الجَناحُ وهو ما يطيرُ به الطائرُ ونحوَهُ، وهو الجانبُ، وأحدُ طَرَفَيْ الإنسان: اليَدُ وَالإِبْطُ وَالعَضُدُ، ويدا الإنسان جناحاه، وهو كذلك الرّوْشَن، وهو الطائفةُ من الشيء، ومِن مرادفاتِه: الحُجْر، والحِضن، والحِماية، والظّلّ، والكَنَف، حسب معاجم اللغة العربيّة.
ولو أنكَ استبدلتَ الضَّمةَ بفتحةِ الجيم في جَنَاح، لعلمتَ سرَّ عظمةِ لغتِنا العربيةِ الرصينةِ المبينة، إذْ سيتحوَّلُ الحُجْرُ والحِضْنُ والكنَفُ إلى إثْمٍ وجُرْمٍ في جُنَاح!
(ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) 5 الأحزاب.
ولا ترِدُ مفردةُ جناحٍ إلا ونتذكرُ قولَه سبحانه وتعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) 24 الإسراء.
فترقُّ قلوبُنا، ونحنُّ إلى والدينا في الحضورِ وفي الغياب، فنطبعُ القبلَ على أجبنتهم، أو نسجدُ فنرفعُ الدعاء.
وكذلك قول الرحمن الرحيم مخاطباً نبيَّه نبيَّ الرحمةِ محمداً العربيَّ الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) 88 الحجر.
فأين أهلُ الإرهابِ والفتنةِ والقتلِ والتدميرِ والتفجيرِ والتهجيرِ مِن هذه الآية..؟!
والجناحُ يعني العلوَّ والحركة والطيران، لكنه يعني الحِضن والخضوع والتواضع والسكينة وبالتالي الرحمة.
وحركةُ الجناحِ رفيفٌ وخفقانٌ وتحليقٌ وطيران.
والمتأمِّلُ في كائناتِ الله المحلِّقة، وحركةِ أجنحتِها كالطيورِ، فيما شاهدنا ونعرف، يودُّ لو كان مثلَهنَّ في طيرانِهنَّ، وحتى في سكونِهنَّ وتسبيحِهنَّ وتغريدهنَّ وغنائِهنَّ، وحتى في نواح القمريّ بينَهُنّ.
كما يلحظ الفارق بين نشوة الطير لدى نهوضها عن الأرض، واندفاعها نحو السماء في ارتقاءٍ أخَّاذٍ، وبين خضوعها ورقتها وحنوِّها عندما تخفضُ أجنحتها وتضمها، لكأنك تلحظُ مزيجاً من الرضى والحزنِ الذي لا يفسَّرُ، لكنه يشبه وجوه أصحاب القلوب المؤمنة الصافيةِ البيضاء، وسكينةً تشبهُ شرودَ المتأمل الحكيم.
ولهذا جاء التوصيف القرآني (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) محاكياً حالة الطير في خضوعها، ومطابقاً لصورتها، مما يحرك مشاعرنا، ويؤثر فينا تأثيراً عميقاً حدَّ الرعشةِ والبكاء، أو يأخذنا بيديه إلى مواطن الحزن النبيلِ، فيصحو الضميرُ ويطيرُ بنا إلى والدينا على أجنحةِ النقاءِ والصفاءِ والدعاء أأحياءً كانوا بيننا، أمْ أمواتاً عند ربهم وربنا.
وهنا توصيفٌ قرآني لحركةِ الطيرِ، والقرآن يدعونا دوماً للتأمل والتدبر والتفكير بعمق، فيما يدعونا بعض الغوغاء اليوم إلى تعطيل الفكر والأسئلةِ والحوارِ، ولولا الأسئلةُ لما نما الفكرُ، ولما دارت عجلةُ الحضارة:
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) 19 الملك.
(أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) 79 النحل.
والجَناح يأخذ بعداً خيالياً فطرياً يدلّ على عبقرية جرير في رائعته، وكل أبياتها حكمة وجمال، هذه القصيدة التي تصرّح ولا تلمّح، وتشيرُ إلى عبقرية الذائقة العربيّة منذ البدايات الأولى مروراً بالعصور، فلا لغةَ كلغة العرب، ولا شِعرَ كشعرِهم:
أتصحو أم فؤادكَ غيرُ صاح
عشيّةَ همّ صحبُكَ بالرّواحِ
تقُولُ العاذلاتُ: عَلاكَ شَيْبٌ
أهذا الشيبُ يمنعني مراحي؟
وهنا الريش والقوادم والجناح، جناحُ جرير:
سأشكرُ إنْ ردَدْتَ عليَّ ريشي
وَأثْبَتَّ القَوادِمَ في جَنَاحـي
ألَسْتُمْ خَيرَ مَن رَكِبَ المَطَايا
وأندى العالم ينَ بطونَ راحِ
وحلم الإنسان بالأجنحة والطيران قديمٌ قِدَمَ الإحلامِ، وقدْ تحقّقَ حديثاً عبْرَ المنطادِ والطائرة والمظلّةِ فاختُصِرت المسافات وقرُب البعيد، ثم ذهب الإنسانُ أبعدَ من ذلك فبلغ القمر وسارَ على سطحه، وسبح في الفضاء، وأقام المحطات الفضائية، وبلغ بتقنيته وأجهزته الحديثة الكواكب الأخرى.
ولعلّ أوّلَ من راودَهُ الحلم ممّن نعرفُ عباس بن فرناس، ولا شك أنّ هنالك كثيرٌ ممّن حلموا بذلك ولا نعرف، لكنّ ابن فرناس الأندلسيّ هو أولُ من حوّل الحلمَ إلى حقيقةٍ، وذلك في العصر الأمويّ، وقد كان عالماً شاملاً وشاعراً، فطار بأجنحةِ الحقيقةِ والعلم، كما طارَ بأجنحةِ الخيال، ولولا الخيال لما كان الابتكار كما يقول «نيتشه»، أو شيئاً من هذا القبيل ما قال، ولكنّ هذا ما تدوّنهُ الذاكرة!
وهنا شعرٌ صنعانيٌّ بديعٌ لـ«الآنسي الابن» القاضي أحمد وهو ابن القاضي الشاعر المبدع عبد الرحمن الآنسي، يتمنى فيه أنّ له جناحَ قمريٍّ لينوحَ، أوْ يطيرَ مثلَهُ إلى من نزحوا ونأوْا:
جَلَّ منْ نَفَّسَ الصَّباحْ
وبسَطْ ظلّهُ المديدْ.
ألْهَمَ القمري النياحْ
يشتيَ النازحَ البعيدْ.
آهْ لوْ كان لي جناحْ
كنت مثلَهْ وعادْ أزيدْ.
ربةَ القرطْ والوشاحْ
والّلمى الحالِي البديدْ.
قتَلتْني.. بلا سلاحْ
وادعتني لها شهيدْ.
وللملائكةِ التي لا نرى أجنحةٌ، كما للطيرِ التي نرى ونعرف أجنحة، لكننا نستمدُّ وصفها من القرآن الكريم، كما في مطلعِ سورةِ فاطر:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)(
وفي تفسير القرطبي تفصيلٌ، وجمالُ لغة عربية غنيّةِ مبينة:
(جاعل الملائكة رسلاً) الرسل منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، صلى الله عليهم أجمعين. وقرأ خليد بن نشيط (جعل الملائكة) وكله ظاهر. أولي أجنحة نعت، أي أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع أي اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة.
قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة: ينزلون بهما من السماء إلى الأرض، ويعرجون من الأرض إلى السماء، وهي مسيرة كذا في وقت واحد، أي جعلهم رسلاً. قال يحيى بن سلام: إلى الأنبياء. وقال السدي: إلى العباد برحمة أو نقمة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح.
وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال له: يا محمد، لو رأيت إسرافيل إنَّ له لاثني عشر ألف جناحٍ، منها جناحٌ بالمشرق وجناحٌ بالمغرب، وإن العرش لعلى كاهله وإنه في الأحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع -والوصع عصفور صغير-.
هذا ما كان من أمرِ أجنحةِ الملائكةِ، أما إنسانُ الحضارتِ القديمة فقد ابتكرَ أجنحةً خاصةً به، تمثل القوة والحكمة والشجاعة.
ولا يوجد أشهر من ثيران مملكة آشور المجنَّحةِ في بلاد ما بين النهرين، العراق عبر حضاراته المتوالية كالسومرية والأكّادية والآشورية، وهي تماثيلُ ضخمة تحرسُ بواباتِ مدنهم وقصور ملوكهم.
وهنالك التنِّين نافث النار، الكائن الأسطوري المجنّح، ويرِد ذكرُه في معظمِ حضاراتِ العالم، منه الأوربي Dragon وهو اسمٌ مأخوذ عن اليونانية بمعنى الضخم، وهنالك الآسيوي ومنه التنين الصيني الشهير بمخالبه الخمسة، وكذلك الهندي، والفارسيّ. ومنها حسب الحضارت ما هو شرِّير، وما هو خيِّر.
وهنالك بعيداً عن الكائنات، أجنحةُ المعارفِ والفكر، ولولا المعارف لما طار الإنسان، ولظلّ حبيسَ كهوفِ التخلفِ والجهل، كما يحصلُ مع بعض المنغلقين في أمتنا من التيارات والجماعات كافة، الذين يظنون أنهم بلغوا منتهى العلم، وأنهم يعلمون وهم لا يعلمون، وهم حتى وإنْ علموا غابت عنهم الحكمةَ، وغاب عنهم النبلُ وتغليبُ مصالح الأوطان والناس على مصالحهم الضيقة، فيؤذون الناسَ، ومن قبلُ هم يؤذون أنفسهم، ولذلك هم يرون في كلّ جديدٍ تهديداً، وهم أنفسهم تهديدٌ لأمن الأوطان بلغْوِهم وتحريضهم وبثهم للفتن، أو حين يخرج من بينهم من يُدارون بأجهزة التحكم عن بعدٍ، فيقتلون ويفجّرون ويهجّرون، ويعطلون الأوطان، فتحلّ الفوضى محل القوانين والنظام، ويصبح الشرّ والإرهاب دربَ كلِّ من لا دربَ له.
وهم يقطّعون أجنحة الأوطان، وينتفون ريشها، فتتوقف عن الطيران والتحليق واللحاق بركب الحضارة، والمشاركة في خدمة البشرية، ونشر العلم والرحمة والتسامح والوسطية والدين الحقّ، وتظلُّ ذليلةً كسيرةً حبيسةً ورهينةً لديهم ولدى أعدائها المتربصين، كما هو حالُ الأمةِ في معظمِ بقاعها اليوم، فاللهم احفظ أهلنا وأوطاننا. وهناك أجنحةُ الأرواحِ وأجنحة الفنونِ والآدابِ والشعر.
وللحبِّ أجنحةٌ كذلك.. تطيرُ بقلوبِ العشاقِ فينسون أنهم على الأرض.
والكلمةُ الحرَّةُ الصادقةُ ابنةُ بيئتِها وهويتِها تطيرُ بك عبر الحدودِ فتصلُ إلى كلّ شعوبِ العالم، وحالُ القصيدةِ كحالها.
وتوصفُ اللغة بالمجنَّحة، وكذلك الحروفُ والقصيدة:
وها هي القصيدةُ تطيرُ بغيرٍ جناحٍ على الدنيا، مستعينةً بأجنحةِ الحقِّ والخيرِ والحبِّ والتسامحِ والجمالِ والخيال، حتى وإنْ كان الشاعر في بقعةٍ ما من هذه الأرض قد طوى جناحاه على التعبِ أو المرضِ أو الفقر أو الظلمِ أو الغربةِ، والغربةُ غربتان، غربةُ ووحشةُ روحٍ، وغربةُ مكانٍ وبلاد:
إنْ تَمْزِجِيْهَا يَا مِزاجَ قَـــصِيْدَةٍ
كَتَمَازِجِ الأرْوَاحِ.. بِــــالأرْوَاحِ
يُنْجِبْنَ حُبَّاً كَمْ تَمَنَّتْهُ الْـــــوَرَى
قَلْبُ الأمِيْرِ.. وَمُهْــــجَةُ الْفَلاَّحِ
أوْ تَلْمُسِيْهَا وَالْحُرُوفُ عَلِيْـــلَةٌ
تَبْرَا فَيُشْرِقُ مِنْ يَدَيْكِ صَبَاحِي
حَتَّى إذَا قَامَتْ تُقَوِّمُ خَـــطْوَهَا
طَارَتْ عَلَى الدُّنْيَا بغيرِ جَنَاحِ*
فإذا ما طارتْ وحلّقتْ وهبَتْ الدنيا وأهلَها الخيرَ والحبّ والجمالَ والتسامحَ والمعرفةَ برقّةٍ ولطفٍ وإنشاد، فتأسرهم دونما قيد، وتدلهم على دروب الحق والجمال فترتقي بهم بلينها وحسنها وبياضِ قلبها وياسمينها، لا بالتجهُّمِ والغلظةِ وقيودِ الحديد!..:
أرْسَلْتُهَا للنَّاسِ مَا مِنْ غَــيْرِهَا
تُسْبِي وَتَأْسِرُ دُوْنَ حَمْلِ سِلاحِ
الْوَجْهُ مِنْ وَرْدٍ وَرِقَّةُ حُسْـــنِهَا
مِنْ زَنْبَقٍ.. يَخْتَالُ عِنْدَ أقَـــــاحِ
بَيْنَ التَّمَنُّعِ وَالْقُبُولِ حِـــــــكَايَةٌ
مِنْ جُوْدِ تَوْرِيَةٍ وَمِنْ إفْصَـــاحِ
لا كُرْهَ فِي قَلْبِ الْقَصِيْدَةِ إنَّـــهَا
مَعْجُوْنَةٌ مِنْ طِيْـــــــبَةٍ وَسَمَاحِ
وَتَفِيْضُ حُبَّاً لِلْبِلادِ وَأهْــــــلِهِا
تُهْدِي النُّجُوْمَ لأعْيُنِ الْـمَــلَّاَحِ*
يقول الشاعر العربي الكبير عبدالرزاق عبدالواحد -رحمه الله- في قصيدته «خيمة على مشارف الأربعين»، وهو اسم ديوانه الصادر عام 1970:
كأنكَ في خيمةِ الأربــــعين
تُخلعُ أوتادهـــــــــــا للسّفَرْ
وتجْمعُ للدربِ زادَ المُــــقلِّ
كفافَ المُنى وطويلَ السّهَرْ
على أنَّ في قلبِكَ المســتفز
جناحاً يُغالبُ أنْ يُؤْتَـــــسَرْ
وفيكَ وإنْ لمْ تفُهْ صيـــحةٌ
يطولُ مداها ولا يُختَـــــصَرْ
لله ما أجملَ في الإنسانِ الحرِّ قلبَه، وجناحَه الذي يغالِبُ أنْ يُؤْتَسََر.
وقد كانت أولُ محاولةٍ ناجحةٍ للانعتاقِ من الأسْرِ، أسْرِ جاذبيةِ الأرض في الأغلبِ للأخوين كارتر عام 1903 بطائرتهما wright flyer في كارولاينا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية، وفيما يُوثَّقُ أنَّ أولَ طائرة مدنية مسالمة كانت طائرة روسية عام 1913، لكنَّ البداياتِ الفعلية للطيران المدني التجاري كانت في أوروبا بين فرنسا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى بدءاً من عام 1919، إذْ تمَّ تحويلُ الطائراتِ الحربيةِ إلى طائراتٍ مدنية، وبعد سنواتٍ من التطويرِ بعد الحربِ العالميةِ الثانيةِ، رأينا كيف تغيّر العالم، واختُصرت المسافات، ونمت التجارة العالمية، وانتشر العلم، وسهل وصول كل شيء إلى كل مكان، من حبّةِ الدواءِ إلى الكماليات، وانتقل البشَرُ بيسرٍ بحثاً عن العلم والعمل، واكتُشفت مواردُ الأرضِ على نطاقِ العالم، فنشأت دولٌ جديدةٌ، وتغير العالم تغيراً جذرياً بفضلِ الأجنحةِ، وهي هنا أجنحةُ خيرٍ وسلام.
ولكنّ هنالك أجنحةٌ للشرِّ أيضا، صنعها الإنسان من الحديد البارد، لشنِّ الغارات والحروب، بدءاً بالأسلحة التقليدية وصولاً إلى أسلحةِ الدمارِ الشامل.
إلا أنَّ رمزَ الشرِّ المحضِ فيها كان صناعةً أميريكية تتمثّلَ في "إنولا جي" الطائرة التي ألقَتْ أولَ قنبلةٍ نووِّيةٍ على هيروشيما فمحتها وأهلها، ومن بعدها ناجازاكي، وقد خلّفت دماراً ووباءً يمتد طوال التاريخ، وجرحا في الأخلاق والمثل لا يندمل، جرحاً اسمه:
Enola Gay و "إنولا قي" هو اسم الطائرة، وهو اسم والدة الطيار، الكولونيل بول تيبيتس، الذي يُعتبر بطلاً قومياً في وطنه الأم، لكنه يعتبر فيما يدونه التاريخ أكبر قاتلٍ فردٍ عرفته البشرية.
وهنالك عشرات الآلاف من أجنحة الحديد والنار التي ألقت ملايين الأطنان من القنابل الحارقة على المدن والبشر عبر العالم في فيتنام والعراق وفلسطين ولبنان ومئات المدن والقرى، وقتلت وشردت الملايين:
وقدْ كنتُ كتبتُ رسائلَ إلى أمريكا، إبَّان العدوان الأمريكي على العراق واحتلاله وتجريفه وتخريبه وتجزئته وزرع الطائفية والمذهبية فيه، وكانت هذه الرسائل قد كتبت بأسوبٍ نثريٍّ شعريٍّ ليسهلَ أمرُ ترجمتِها إلى الإنجليزية من بعد، وما زلتُ أحتفظُ بمخطوطها، وهذه دعوة لمن يريد نفضَ جناحيه من المترجمين إلى العربيةِ، ونقلها لتصلَ إلى أصحابها مع الأجنحةِ المهاجرةِ إلى الشَّمال!
ومنها هذه الرسالة لهذه الطائرة الخبيثة المتوحشة: Enola Gay
أيتها العملاقة:
يا جبلاً من الكراهيةِ والحقد،
يا وحشَ أمريكا الأسود،
وتنِّينَ البنتاجون،
يا ديناصورَ الرعب،
وشبحَ الموت،
يا دمارَ العالم
أراكِ على بعد ِعمرٍ قصيرٍ
تقصفين أبناءكِ
وتَنْتَفِضِينَ على جذوركِ البيضاء
كما أنني أرى النسرَ..
نسرَك الحديديِّ الذي زيَّن عوالمَ من بعثوك من الموت
منقضّاً على ديكَةِ أعيادِ الميلاد
ولْيذهبْ عندها "بابا نويل" إلى الجحيمْ!..*
ورغمَ ذلك، فإنَّ الأجنحةَ تظلُّ ترتبطُ، في أعيننا وذاكرتنا، في نهايةِ المطافِ بالطيور، حيث الجمال والسلام والخيرُ والتسبيح، ويقظةُ وانتشاء الفجرِ، وسكينةُ وهجعةُ الغروبْ:
الطيورُ تدلَّى على الأرضِ قبْلَ الثمَرْ.
قلتُ نهجُ القصيدةِ
قلتُ قلائدُ حُبٍّ من النِّسوةِ الصَّافياتِ كنونٍ
ونشوةُ يُسْرٍ
وسِرُّ افتتانٍ
فقلْنَ الشَّجَرْ.
قدْ أتَيْنَ فرادَى وجَمْعاً
تلكَ هِيَ العامريَّةُ
أمَّا فتلكَ هِيَ الاسْمُ
قرْبِي الخَبَرْ.
فالطُّيورُ بَشَرْ.
والطُّيورُ على مَسْمَعٍ في الجَلالِ وَتَرْ *
دمتم كما تحِبُّون وأحِبُّ، أجنحةَ خيرٍ لا شرٍّ، وخفقَ محبَّةٍ لا حقدٍ وكرْهٍ، ورسُلَ حَقٍّ لا باطل، وتغريدَ فرحٍ لا كآبةٍ وحُزْن.
*للشاعر كاتب المقال.
- التفاصيل
- الزيارات: 530
الحربي يستعيد عطور البردوني
يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر القافلة بقصيدة من آخر ما كتب.
- التفاصيل
- الزيارات: 373
يُعتبَر الأعشى رمزاً من رموزِ الشعرِ العربي على مَرِّ العصور، وتعتبر معلقته الشهيرة التي مطلعها:
ودِّعْ هريـرةَ.. إنَّ الركْبَ مُرتَحِلُ
وَهَلْ تُطيقُ ودَاعَاً.. أيُّـها الرجُــل
غَرَّاءُ فرْعاءُ مصقولٌ عوارضَها
تَمْشِي الهُويْنَى كما يمْشِي الوَجِي الوَحِلُ
كأنَّ مِشيَتَها.. مِنْ بيتِ جارتِــــها
مَرُّ السَّحَابةِ لارَيْــــثٌ ولا عَجَلٌ
- التفاصيل
- الزيارات: 345
الليلُ وَالْأَبوَاب
أصْحُو..
لَا نُورَ سِوَى الضَّوْءِ الْخَافِتِ في الصَّالةِ
أَمْشي..
أَتلَمَّسُ خَطْوِي،
وعُيُونِي