صباح الجاردينيا، تلك النبتة الملائكية التي لا تشبه إلا نفسها، ولا تقبل ألواناً غير لونها الخلاب الهادئ كنفسٍ مطمئنة. الجاردينيا المبتهجة المبهجة بتكوين وعطر خاص، بحسن غير مجلوب، وحضور لا تباه فيه. ها هي موجودة متى أردناها بثقة ولكنها لا تتعالى كما يفعل الزنبق المغرور، كما أنها ليست شائعة عادية كالياسمين الذي ليس له ذنبٌ إلا تعودنا عليه، وإسرافنا في امتداحه، كأن ليس غيره والورد في سلال الذاكرة، أو تقصي العينين، أو استحضار الروائح والنساء.
كنت سأكتب البارحة ولكنني كنت مجهداً دونما جهد، فقط هو هذا العقل الذي لا يستكين.. يريد إصلاح العالم، وترقية النفس والخلق، وإزاحة السواد، ونشر الشعر والحب والسلام والألوان. أو هو هذا القلب الذي أدماه الحزن على الحال، حالنا، وحال أمتنا، لكنه أبداً يجترح الفأل والأمل، ويزيد من عناده حتى تفطر.
كنت سأكتب ولكنني نمت كالأطفال في العاشرة، وقلت سأكتب مع الصباح ورائحة القهوة، مع طعمها الأوحدِ وما يلامس النفس من جمالٍ أو يغمرها من موسيقى، ما يغمرها من بيانو ياتي من البعيد بنغمات انسيابية لا تشعر بها إلا إذا نبهتك نوتة عالية، أو رفعتك موجة صاخبة.
الصباح عالم لا يفهمه إلا القلة، ولا يفتح بابه وقلبه إلا للمحبين والبسطاء، والحكماء ذوي القلوب البيضاء، والتأمل العميق. لذلك أحرص كل الحرص على التواجد في مجلسه الملون الباذخ والهادئ في نفس الوقت، وديوانه المكتنز، وذاكرته الفذة.
والصباح لي حيث أرتب عوالمي معه وفيه، وأتذكر أصحابي وأحبابي وأهلي، المقيمين المنتظرين مثلي، والراحلين في تلك الرحلة السرمدية..
وفيه أستعيد جرائم البارحة الصغيرة، هي جرائم خفيفة كقصائد لم تكتمل، وأحلام لم نسمح لها بالوصول لمبتغاها، وورود لم ترسل، وأحاديث لم تتم. هي نوع من التمرد على العادي والبارد والرتيب، محاولات لتوزيع ما تعرف على من لا يعرف بالإحالة لا بالإشارة، محاولات للتشبث بالحياة إذا كان التشبث بها، أو بما تبقى منها جريمة.
حبيبٌ وأليفٌ مثلك هذا الصباح الذي مهما كان الطقس بارداً يشعرنا بالدفء، ويحرك دماءنا ببهجة نادرة حين ينشد مغنيا كما ناظم حكمت: الحياة جميلةٌ يا صاحبي.
الصباح الطفولة، وحضور المرأة المانحة, وعطر الأهل، والحنين إلى وطن، والطيران دونما أجنحة، والسفر بلا جهات، والمنزل دونما حدود.
الصباح البياض المطلق، والورق الأبيض، والكتابة صباحاً لها طعم آخر كطعم القهوة الأوحد، كقطعة الشوكولا التي تذوب ونظل نتلذذ ببقايا نكهتها.
الصباح والكتابة حوار صديقين بل حبيبين يصلان لذروة التفاهم والانسجام دونما كلام. أو هو حوار جملٍ موسيقية تهيء لنا فيها القرارت اندفاعاتنا وتحليقنا الحر مع أعالي الكمان.
الصباح لوحة لا تكتمل وإن بدت لنا كذلك. فهي تظل مشرقة بالألوان ولا تكتمل لتدعونا كل يوم للإضافة، للدخول، للمسها، للإحساس بها، لمسح خط او إضافة آخر.
الصباح عمل جبار يظل يتكامل مع العمر.. يتعطر بنا ونتعطر به.
الصباح هو أنا وأنت، وهو وهي ، وهم وهنّ، والصباح لنا ومنا وبنا ولكننا في هذه العجلة الاستهلاكية لا نطعمه ولا نسقيه, ولا نؤثثه بالجاردينيا ولا بالورد والياسمين. بل نقفز عليه للعمل أو للدرس، أو ربما نجتازه بقوارب النوم بينما يتطلع إلينا بحزن لا عليه بل علينا، نحن العجلون، دونما بوصلة أو ميناء.
الصباح دعوة معرفة للجديد الجميل..
فلتكن معرفتي بك إذاً صباح غيم ومطر وغرس وحصاد كحضورك البهي، كحضور الجاردينيا التي لا تشبه إلا نفسها.