مرّ الصيفُ لم تكتبيني ولم أكتبك، ولم تشاكسيني ولم أشاكسك، ما كسرتِ إناءً، ولا خربشتِ على أوراقي البيضاء، ولا سكبتِ القهوة على طرفِ الطاولةِ، فخجِلتْ عيناك، وتلعْثمْتِ، واحمرّ التفاح. ولا تعثّرتِ بثوبك، ولا سال الكحل على خدك مع دمعةٍ مهادنةٍ، ولا ارتفعت الموسيقى على إيقاع البحرِ وتأرجحِ الليل، ولا فتحتِ حقيبتك وأخرجتِ عطركِ فقلتُ لك بابتسامةٍ: من يعطّر منْ؟ أيتها الشقية كطفلةٍ لا تكبرُ، ولا تريد أنْ تكبرَ أو ترحلَ كالطيور.

 

مرّ الصيفُ ما طرقتِ الباب، ولا فتحتُ الباب، ما تسللتِ من الذاكرةِ، ولا تفتّحتِ كبرعمِ حاضرٍ مع الندى من الغياب، لا مرّ أحبابٌ، ولا غادر القلب أحباب.

مسالمٌ أنا هذه الأيام، وهادئٌ كبركانٍ تاب عن قتلِ نفسه، وملّ الألعاب النارية في السماء، رغم كل الثورات والحروب والدم والفتن والفوضى، والضجيج والشتائم البذيئة المتبادلةِ، وهبوط الأخلاق تحت درجة الصفر، رغم الخياناتِ، وتغير الولاءاتِ، كحاضرٍ فيلماً مملاً رآه عشرات المرات، وقد بهتت صوره، وذبلت دهشته، كفنجان قهوةٍ عاشر يُشربُ كعادةٍ وتكرارٍ لا كبدءٍ وتحفيزٍ ونشاطٍ وإشراق وإبداع.

مرّ الصيفُ والناسُ الذين اشتعلوا بفعل الحرارة العالية والضجيج والفحيح لا يريدون سماع العقل والحكمةِ، ولا يطيقون العقلاء والحكماء، فقد أخذوا زمام الأمور بأيديهم، حين غاب كل شيء له علاقةٌ بالقلب والعقل والحياة، ولم يحضر إلا الموت المؤجل والرصاص.

مرّ الصيف وكلّ ما توقعتَ يحدثُ، كأنك أنتَ من أعدّ وليمةَ العزاء، ورثى قبل جنائز الموتِ الشهداءَ من الأهلِ والأوطانِ والقيم والأخلاقِ والحمام.

مرّ الصيف، لا أدري، ولا أستطيعُ أن أحكمَ: هل مرّ سريعاً، أم كان بطيئاً كخطابٍ لا ينتهي رغم أنه قال كلّ ما لديه بصوتٍ عالٍ، ولم يقنع حتى مؤيديه، غير أنّ الجميع صفقوا له استعجالاً للنهوض، ورغبةً في المائدة، لا استحساناً للكلام الطويل الرتيب المعاد.

أما أنا فلا أملّ العودة إليك يا سيدتي لأسأل ما سرّ غيابك والحضور؟!

هل المشكلةُ في المهر أم في النهر أم في الزهر، أم في بحر الكلمات؟

ستقولين لي كعادتك: قل أنت أولاً، وسأقول لكِ يا ست البنات: لقد نأيت بنفسي عن سماع معظم الإعلام، أو رؤيته، لكيلا تفسد ذائقتي وتنحدر أخلاقي، ولكيلا تصيبني فيروسات الشتم واللعن التي انتشرت كداءٍ وبائيٍّ لا علاجَ له، مع أنّ حامليه وناقليه هم من يفترض بهم علاج الأمة، والارتقاء بها، لكنهم اختاروا المنحدر والقاع فكيف يرتقون؟!

لا صوت يعلو اليوم فوق صوت المعارك، لا المعركة الواحدة، ولا مؤمنين وجدوا ضالتهم في الحكمة إلا من رحم ربي من الثابتين الصابرين وسط هذا التيار الهائل الجارف المقيت المميت.

ما فات فات، ولكن اضربي لي موعداً لا نخلفه، وليكن ليلاً، ولتكن الأضواء خافتة، فالنهارُ فاضحٌ، والأوطانُ عاريةٌ، والشمسُ كما تعلمين. أو فليكنْ فجراً فانا عاشقٌ للجمال البكر، وأصحابُ القبحِ نائمون. ولا تشاغبي فتقولي إن القصيدة سيدةٌ لا مواعيدَ لها، وإنها حرةٌ ونحن سعاةٌ في بلاطها، فأنا من كتب ذلك أيتها المشاكسة، كما فعل ذلك الشعراء، لكنني أطلبك بما بيننا من عقلٍ وجنون، وعهودٍ وشجرٍ وماء، وما رسمه لنا السحاب على صفحة السماء، وما تشيعه النجومُ وأسرابُ الحمامِ من انتفاضةٍ وبياضٍ أن تحضري. فالمهم هنا اليوم أنْ تأتي لنذهب معاً، شمالاً أو جنوباً، أو في أيّ اتجاهٍ يؤدي إلى فسحةٍ وجمال، فقد قتلنا الضيق والقبح، ضيق الأنفاس والأوطان رغم رحابتها، وضيق العلاقات والأوقات رغم اتساعها. أعرف أنّ الطريقَ طويلٌ وشائك، وأنّ المسافاتِ ملغّمةٌ مفخّخة، ولكنّ أيّ شيءٍ أجمل من لا شيء الفراغ والموت البطيء!!

أريدك أن تحضري لنؤسسَ دولة الحسن والجمال والشعر والحب ولو على هذه البقعة الصغيرة في مملكة الحلم، حيث الناس سواسية وسادة وسفراء نوايا حسنة، وتكون حسنة بالفعل لا بالقول، لنثبت للعالم أن البديلَ للموت الذي ينشرون هو الحياة الآمنة التي نزرع، والبديل للشرّ هو الخير، وأن البديلَ للتسلّط والشرهِ القناعةُ والاكتفاء، والبديل للقنابل العنقودية وعناقيد الكراهية والحقد والغضب، عناقيد الحب والعنب، والبديل للنوويّ والمشعّ والمنضّد والمفني، هو الإشراق المغْني، والبديل للحرب الكريهة هو السلام المحب، وأن البديل للسواطير والهراوات والقنابل محليةِ الصنع وأنابيب الغاز والسكاكين هو الكتب والورود والرياحين، وهكذا، وأن للقصائد أجنحة كالعصافير، وألواناً كالفراشات، وأن الكلمات أشجارٌ طيّبة لا خبيثة، وأن الأطفال والنساء ملائكةُ رحمةٍ تتعلم وتُعلِّم، لا شياطين تحملُ السلاحَ وتريقُ الدماء الطاهرة، فلا هي تدرك الطفولةَ والحياة فتعيش، ولا هي تترك للآخرين مكاناً وفرصةً للعيش.

هيا تعالي فقد اشتقتُ للسلام والدفء الذي تبعثين، وأجزمُ أنك وأنا، ولو وحدنا، نستطيع أن نتغير ونغير الحياة ولو في هذا الركن الرمادي من العالم.

ستقولين بابتسامة عينيك دونما حديث: لقد حاول ذلك كثيرٌ من الحالمين، وأقول لقد صعد الجبال إلى القمم من قبلي كثير أيضا، وستظل الجبال موجودة، وكذلك الحلم والأمل.

إذاً يا سيدتي القصيدة، سأظلّ أكتبكِ ما حييت، حتى لو تمنّعتِ، وتهت في دلال، وسأظل أحبكِ كما أحببتكِ أولَ مرةٍ في ظلّ الياسمين، والعطر الأول الذي لا يزول.