أُهدي موسوعتي لمحمد جبر الحربي: قبل بيان قصة الموسوعة، وهي (مجموعةُ التأصيلِ النَّقْديِّ والدراساتِ الأدبيةِ) التي أهديتها كلَّ من يُشارِكُني عِشْقَ الميزةِ في كل جديد، وطرْح المُجْمَل من كلِّ قديم مع استبقاء الميزة .. ومَن لم يشاركني ذلك فحقوق القراءة محفوظة للمؤلِّف وسالكي دَرْبِه؛ وإنما جعلت للحربي خصوصَ إهداءٍ من العموم الذي أسلفته؛ لأنه منذ ثلاثة عقود إلا قليلاً كتب نقداً آلمني؛ وما أمرضني وأوهن قدرتي البلاغية مثله؛ وبهذا سقطتُ في المَرْحمة، وراوحتُ بين الدفاع والاستعطاف؛ فكان مما قلته: (كان القاضي صهيب بن منيع يلبس خاتماً نَقْشُه:

ياعليماً كل غيبِ              كن رؤوفاً بصهيب

 

ولقد غاب عند الحاجب موسى بن حُدَيْر غَيْبَةً يؤاخذ عليها؛ فاختلس الحاجبُ خاتمه، وأحضر نقاشاً نقش فيه هذا البيت الآخر: 

 

واستر العيبَ عليهِ           إن فيهِ كلَّ عيب

وظل يختم به ولم يفطن إلا بعد ذلك بحين [انظر جذوة المُقتبس ص 352].. والكرام إذا ستروا العيوبَ اعتبروا ملوكاً ، وهذا الحاجب أخلاقه أخلاق ملوك؛ إذْ ستر عيب صهيب .. فيا أيها الأخ الحربي، ويا معشر الشباب: هل أنتم ساترون على هذا الظاهري عيوبه وإن أحنقكم بإخلاصه لرأيه، وهل أنتم مطارحوه النقد فكرياً وعلمياً دون أن تحركوا مواجعه التي أعلن لكم مرات كثيرة الندم عليها من ذكريات (الطير المسافر) وشبهها .. هل أنتم مُقدِّرون له هموماً أثقل من جبال الهملايا والألب معاً؛ فتقيلون عثرته إن وجدتم له عثرة دون أن يفقد إعجابكم واحتفاءكم .. هذا ما أرجوه إن تركتُ الأمر لصفحكم .. وإن أبيتهم إلا النقاش بميزان العدل لا بميزان الصفح فلعلَّ براءتي من أفكار الدكتور عبدالواحد لؤلؤة قريبة من براءة ابن يعقوب من صواع الملك) .. إلى أن قلت: (إذن كم ظاهريَّاً في بلدكم ؟!) .. ولقد فرح بمقالة الشاعر الحربي كثير من الكتبة؛ لأن صراعي معهم كثير قارص، وصراعي لا يتجاوز إمتاعَ القُرَّاء بتناقر الديوك، ولا يتسرب إلى قلبي شيئ من الحقد؛ ولكنني أضمرتُ في قلبي أن أُتابع إنتاج الحربي لعلِّي أجد عنده ما آخذ به ثأري؛ فإن لم أجد تأوَّلتُ عليه ــ وفي ذلك خيانةُ لأمانة القلم ــ، ثم تراجعتُ وقلت: (إن فعلتُ ذلك جعلتُ مجالاً لمن يدخل عليه من غير باب القيمة الفنيَّة)، وما أكثر من يصطاد في الماء العكر يومها .. ثم خفَّف من كآباتي تعاطُف بعض الأحباب كالأستاذ الذي لم يذكر اسمه، وذلك في المسائية في عددها رقم 1174 في 12 -2 -1406 هـ؛ فكان مِـمّْا قال: (لا أُخْفيكم القول إذا قلت:إن أبا عبدالرحمن بذلك التعقيب قد كسب تعاطف مَن كان توقَّف رأيه فيه بعد نشر ذلك الاتهام.. ناهيك عن الذين كانو متعاطفين معه من قبل .. ألم أقل من البداية أن هذا الظاهري رائع رائع حتى وإن تعرض لاتهام أشبه بالحَبْل المحكم حول الرقبة .. ومع هذا وذاك كان مقال أبو عبدالرحمن رائعاً .. رائعاً .. رائعاً).. ثم كتب الحربي نفسه كليمةً لم أسْتَبِن يومها رَوْعتَها وما في ظاهرها وباطنها من وُدٍّ مكين؛ لأنني في دَوَّامة الكآبة ووطأةِ الحياء من مقولة: (قد قيل ما قيل)؛ فما بالك (من قولٍ إذا قيلا) مع أنه مضى على النقد سنوات .. وفي تنظيمي أوراق أضابيري التي سأذكر إن شاء الله قصتها، وقد ملأتْ الرحبَ والرَّدْبَ من مكتبتي: وجدتُ مقالة الحربي في قصاصة فقرأتها ثَمِلاً بها من غير مداة كأنني ما قرأتها .. بل كنتُ فعلاً لم أقرأها قراءة يُعْتَدُّ بها، وقد نشرها في جريدة الجزيرة العدد 8577 في 4 -11 -1416 هــ، وهي عمود موجز أنشرها بما فيها من إطراء؛ لأنها تساوي عندي أطروحة الدكتوراة التي حُرِمتُ منها، أو حرمتُ نفسي منها .. قال لا فُضَّ فوه:

(مفارقة أن تكون الطويل

وكل أياديك تشكو القصر

كلما مرت الأيام ازداد إعجابي وحبي لشيخنا الجليل أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري محبةَ الصغير للكبير، والسائل للعالم، والمتطلع للعَلَم، والمتعجِّل للمتأنِّي.. وكلما دارت الأيام أخذتني الدهشة من نشاط شيخنا الفذِّ المتنوِّع المثري - أطال الله في عمره -، وبمتابعته الدقيقة، وجلَده الأخَّاذ.. هذا الرجل لا يتعب من البحث، فكأنهما متلازمان يعرِّف أحدهما بالآخر. ولا يكتفي من العلم فكأنه جِهاته وخُطاه.. اختلفنا فكان الأنبل، وابتعدنا فكان الأجمل، والتقينا فكان عمره وعلمه الباسم المتقدمُ الأوَّلَ.. والحقيقة أننا لم نختلف، بل تساءلتُ فأجاب، ولكنَّ المصطادين كُثر، والحاقدين وُفر، والكائدين وإن أُوثِقُوا السرَّ جُهِر [مطلع للشاعرة خديجة العمري: المريدون كثرُ]؛ فما نالهم إلا الصواعق، ولم تنله إلا الديمُ .. ويظل الكبار كباراً، وتظلُّ أخلاقهم للصِّبية [قال أبو عبدالرحمن: هذا التفاتٌ منه إلى قرصي إياهم عن مودة بكلمة (أُغيلمة الصحافة)، واليوم بحمد الله كبروا علماً وعقلاً وسِناً] مناراً ــ هذا إذا عقِلوا وما أظنهم بفاعلين ــ . وأنا هنا لا أقدم اعتذاراً لشيخنا ومن واجبي أن أعتذر، ومن أخلاقه القبول .. ولا أَقَدِّم مديحاً ومن حقي أن امتدح من أشاء، وفي حقه يقْصُرُ المديح .. إني هنا أستعيد حالة أو غيمة أوسنبلة .. أستعيد الثراء المتنوِّع المثري، والشجاعة التي هي قبل شجاعة الشجعان، والاختلاف الموصِّل إلى النبع والمؤصِّل لأبجديات الثقافة، كما أستعيد لحظة التقينا فيها هنا في الجزيرة، فغمرني بمطر المحبة، وكساني بجلال العلماء، ويظل الكبير كبيراً .. كلما تجلَّـى ارتفع، وكلما نأى لمع .. ولكن يا شيخنا (يا شيخ غربتنا): قلْ لي بربك: من أين، وإلى أين ؟! ..من أين هذا الصبر، ومن أين هذا الذي يراه البعضُ تعالياً وأراه اعتزازاً واعتداداً ؟!.. وإلى أين تبغي: هل وسمت جبلاً، أم رسمت نجماً هناك في أعلى الأعالي، أو من أين وإلى أين ؟!.. أتركهما لك سؤالان مفتوحان بطول العمر وعرضه هكذا .. ويا شيخنا (يا شيخ ألفتنا، وياصاحب الحق والخير والجمال) كيف ترى، وماذا ترى ؟!.. كيف ترانا، ترى ساحتنا، ترى مساحاتنا ؟!.. كيف ترى الشعر والشعراء ؟!.. هل زحف الدَّبى، أم هل نَدُر الفرَاش واحترقت الفراشات ؟!.. هي أسئلة !.. تالله ما ابتعدتُ،ولكنها أمطرت البارحةُ فأمطَرتُ، وأعادت للروح صفاءً كان محبوساً، وحنيناً حزيناً أحيته طرقةٌ سَّابيةٌ على باب الذاكرة .. بل نافذتها الخشبية !!.. سلمتَ، وسلمتْ ذاكرتك وخطاك .. محمد جبر الحربي) .

قال أبو عبدالرحمن: واعُمراه وقد خلعت النصف الأول من العقد الثامن !!.. ما ظننتُ أن هذا الشاب سيغلبني بهذا الإيقاع الجميل، ولولا ارتباطُ فكري ـــ وهو الفكر البشري الحتمي المشتَرك ـــ بمبدإ الهُوِيَّة لآمنتُ بما افتروه من تسمية (قصيدة النثر) .. إن هذه الكليمة شعر بالموسيقى الداخلية؛ ففداءٌ له الموسيقى الخارجية التي تجعل النص (كوبليهات من الأنغام)؛ لهذا كله جعلتُ له خصوص إهداء عندما أردت إحياء سيرة السلف بجعل الإهداء في المُقَدِّمة لا بإهداء مستقلِّ العنوان، وسيجد إن شاء الله الجواب على أسئلته في المجموعةِ الموسوعةِ، وفي هذه الأحاسيس المتدفِّقة نموذج لما هناك بتحليل قصيدة عن عبدالله القصيمي نشرت بملحق هذه الجريدة للأستاذ سليمان العتيق .. ولكن أوجز الجواب بأن أدبنا العربي التراثي ليس نهائياً مطلقاً؛ وإنما هو (أدب تاريخي لأمة)، والتاريخ سيَّالٌ بكل ما تُبدعه الأفكار والعواطف والمهارات .. لا يضيرني أن ألتقط الميزة ـــ إن وجدتها ـــ ولو عند مثل (نيتشه) أحد أساطين الإلحاد، أو (بيرون) الذي اختصر كل القبلات في الوجود، أو (جلال الرومي) الذي هوَّم مع الحلول والاتحاد .. ولا أقبل أن يكون (الطَّعْم اللذيذ) بفتح الطاء المهملة المشدَّدة (طُعْما) بالضم في حُبَّالة أَحَدِ زبَّالي النِّحَل أو المِلل المَبدَّلة، أو الطائفية الشعوبية، أو المستأجَر؛ ليصطاد شخصيتي التي يؤسسها كل مسلم وكل عاقل على قيمتين أُخريين هما (بَهَرُالحقِّ)، و (مَأْمن الخير)، فيكون الجمال الفني عنده مشروطاً بالجلال .

 

*نشر في صحيفة الجزيرة تاريخ 25/5/2013 العدد 14848