الثبور

                                                  

 في هذا الوقت، هذا الخريف، ينتشر الزيف انتشار بقع النفط، ويتسارع العالم نحو النهايات كما تنهار الكتل الجليدية بفعل ارتفاع حرارة الارض، والتربة بفعل الفيضانات.. نهايات البيئة والأرض بمائها ويابستها، ونهايات الأخلاق التي لم يعد يحفل بها شياطين الإنس وهم يدمرون كل قيمة جميلة بحثاً عن غنائم وأمجاد تواري سوأة امبراطورياتهم المتهالكة الزائلة، ولكنهم من حيث يشعرون ولا يشعرون، يدمرون مدنهم وأوطانهم وشعوبهم، إذ يقصفون ويحرقون المدن البعيدة عن حدودهم، ويجربون أسلحتهم القذرة في صحاري وبحار غيرهم، متناسين أن الأرض منظومة شديدة الترتيب والتسلسل، إذا خربت خلية فيها، تهاوى كامل النسيج، ولو بعد حين.

وفي زمن التشرذم والطائفية والدول المحتلة التي لا تصدر المهجرين الشرفاء المغلوبين على  أمرهم فقط، بل تصدر أدعياء البطولات، ومزيفي التاريخ، ومتسولي المناصب، وبائعي الشعوب الأوطان، ومثقفي الأقنعة المتلونين، يحدث أنْ يخاطبك الأعداء على أنك منهم، وأن ينكرك الأغبياء من أمتك كأنك من أعدائهم!

وفي عصر الدول المنحلّةِ، ينحدر كل شيء إلى القاع، وتتجاوز التفاهة نفسها، وتتبدل الولاءات والأحلاف كل طرفة عين، حتى في دول أصغر من حجم الكف، تتقاسمها أحزاب تفوق عدد مدنها وقراها، ويُدفع لتابعيهم بمال ينز منه الدم، حين تتشابه الرؤوس والأذناب، والنخب، نخبهم، والغوغاء.

وفي عصر الأحلاف الواهية، والحكومات السليبة المسلوبة السالبة، والمنافي الاختيارية، يمتلئ بريدك برسائل سقيمة من كل حدب وصوب، تثير الضحك إذْ تنكأ الجرح، إذْ تستغفلك وتستغبيك!

إنه بريد مزايدات، يختلط فيه الحابل بالنابل، معظم وجوهه متخفية بأقنعة الكراهية والزيف، لكنها تصر على أن تصدق زيفها، وأن تؤمن إيماناً مطلقاً بأنها الوحيدة التي تملك الحقيقة، والوحيدة التي لها حق تمثيل الشعوب، أو بمعنى أدق سرقتها، والوحيدة المخولة والقادرة على تنفيذ وتطبيق ما تشاء، كيفما تشاء، وقت ما تشاء.

نعم يبعث لك بائعٌ خائنٌ لتدافع عن خيانته القاتلة، ويكتب لك محسوب على أمتك وحضارتك لتدافع عن الشعوبيين والانفصاليين والمتآمرين القتلة، ولو عبر التسويق لبضاعته المريضة!

في زمن الفوضى ستأتيك دعوات من مهرجانات ومنتديات لا يعرف مروجوها إنْ كنت شاعراً أم قاصاً، ولا إنْ كنت شعبياً أم فصيحاً، ولا إن كنت ناشراً أم بائع خضار، إنه سوق خضروات، بلْ في الخضروات نفعٌ، بلْ هو سوق بلاء!

كل شيء تجارة لكي لا نقول المفردة التي على وزنها، لأنه سوق أضحى فيه تقليد الغرب كيفما اتفق واجباً، والانفتاح كيفما اتسع طابعاً، والتخلي عن القيم والمثل شيمةً، وطمس الهوية مشروعاً وطنياً، وتخريب اللغة تجاوزاً واندماجاً في الكل، ومسخ الثقافة تقدماً يليق بالعالم/ القرية الصغيرة، والدس والذم والنميمة والسرقة وتخريب البيوت والديار ضرورة تقتضيها الحاجة، والتناحر والقتل وسيلة مبررة للبقاء!

ولكن مع ذلك، ونحن في زمن التيه والتتفيه، خلق لنا الله أدواتٍ للمحو تمكننا من محو الخبيث، وأنشأ لنا مفرداتٍ للإبداع والبناء والتغيير، ومنح لنا عقولاً وبصائر لا تقبل إلا بالحقيقة من منبعها ونبعها النقيّ، وجذورها الراسخة، وشجرها الطيب، بأغصانه المتنامية صوب النور، مخلفين العتمة لأصحاب العتمة والقبور، يدعون بالثبور على ما جنوه بفعل أيديهم، وما جلبوه من أعاديهم.

وما دام هذا هو المنحدر الذي وصلوا إليه، ولا يكتفون بسوئه، بل يريدون تصديره وتعميمه، فلا يدعون ثبوراً  كثيراً!