لم يك يخطر ببالي مطلقاً أن الباب الجنوبي الذي اصطحبني إليه عبدالله الكويليت في مساء ربيعيّ شاعر من عام 1982م سيتفتح عن معين من كبرياء الشعر، وسمو الأخلاق، وعذوبة الزاد والمراد.

ووقوفاً بالباب لم نك بحاجةٍ إلى بيت حامد الراوي الشهير:

مولاي لا تطلقْ كلابَك

إنْ ضِيَق بي وطرقتُ بابك

وكنا حينها نأكل شعراً، ونتحدث شعراً. فقد استقبلنا الشاعر المعذّب العذب عبدالله عبدالرحمن الزيد استقبال الفاتحين الكرام، وانضمّ إلينا شاعر جميل آخر هو عبدالإله البابطين الذي فضّل الصمت حين خبّأه الحزن.

كنّا صغاراً كباراً نحمل في أعيننا شعلة التوق، وفي صدورنا قلوباً عامرة بالحبّ والشعر، في سعينا الحثيث للبحث عن الدهشة والجِدّةِ، والثمر النائي، والصعب الداني.

محصّنين بجذور ضاربة في عطر التاريخ، وتربة الوطن الذي كان ولا يزال هاجساً أولاً، وهمّاً جميلاً ارتضينا حمله حين آمنّا به جزءاً حيويّا مهماً، ومركزاً متسعاً للأمة العربية والإسلامية: لغتها وفكرها ومعتقدها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولعلّ في هذين البيتين اللذين قلتهما مؤخراً، وأهديهما لفرادة الزيد ما يشي بذلك:

يا سيدي يا شهد يا وطن الجنى

أهديك فارعةً، ونقتسمُ الضّنى

أعطيك أيسرُهُ وأحمل جُلَّهُ

متبسّماً أَوْما وقال: لعلّنا!!

وهكذا كنّا مستندين على تراثٍ لا يكبّلنا، بل يدفعنا دفعاً حانياً نحو منابع الضوء، ومكامن الذهب المصفّى الخالص، وأعراف العزّة والكرامة والفخار.

لأنّا أردناه "وطناً لا يشبهُ وطناً، عاليا لا تعلو هامته الريح".

كان ولع الكويليت بالشعر كبيراً، ولكنه اختار جناحيْ القصة القصيرة والمقالة، ثم ما لبث أن اتخذ قراراً لا يتخذه إلا الكبار، وهو التوقّف، والانحياز الى القراءة الغزيرة، والتذوق العالي، ولديّ رسالة كتبها بين "البحر والعطش" يصرّح فيها بذلك، ولا أدري اليوم ماذا تخبّئ الأدراج لنا.

أمّا الزيد المولع "بالإيقاع" فقد استمرّ معه "إيقاع الزمن الآتي"، وأذكرُ لبعث الابتسام أنه فاجأ أحد الأدباء مرّة بالسؤال: لماذا إيقاعك متخاذِل؟! وكان يقول: إن فلاناً إيقاعه سلحفائي!!

المهم أن الزيد ظل محافظاً على فرادة نسيجه، وخصوصيته، والدرب الذي اختاره بعناية وحذر، وهو درب صعب وعر.

وقد شغلته أسئلة الأصالة والمعاصرة أو كما يراها الشاعر عبدالرحمن طهمازي "القطيعة والاستئناف".

وهي أسئلة الثابت والمتحول لدى علي أحمد سعيد الذي رأى فيه الزيد مثالاً جيداً وجريئاً لطرح الأسئلة، ولكنه لم يقلّده، ولم ينضو تحت لوائه.

ولعلّ هذه الأسئلة، وغيرها قد عطّلت في بعض الأحيان قدرات أكبر يختزنها الشاعر الكبير فيه.

ولعلّها حالت في أحيان أخرى دون وصول قصيدته الى عدد أكبر من المتلقين، ولكنه اختياره الذي لم يتنازل عنه، وطريقه الذي ما انفكّ ضارباً فيه.

وهذا تصوّر يحتمل الخطأ، وهو يخصني، ولا يلزمه.

ونحن إذا ما أدركنا أن في الشعر والناس كما في الشجر نخلاً كريماً، وتيناً، وزيتوناً مباركاً ومثمراً، وصفصافاً لا يُرتجى منه ثمر.

سهل علينا وضع الزيد في المقام الأول، حيث الثمر نهر من الإبداعات الشعرية والنثرية، ومن العطاء الصادق الفاعل المبارك في حقول الكلمة والإعلام، وحيث الكرم صفة أولى من كرم النفس، والأخلاق إلى ندى الكف، وجود الإبداع.

وهكذا عبر "اقرأ"، و"اليمامة" والإذاعة والتلفزيون، والنادي الأدبي، والأمسيات الشعرية، واللقاءات الحميمة، ومهرجان المربد الشعري، والزيارات النادرة الثريّة، كانت تنمو شجرة جميلة في قلبي، وأمام عيني لعبدالله الزيد. وكنت أرويها بماء الحب والوفاء والإعجاب والتقدير لإنسان وطني معطاء، وشاعر فريد، بكل ما تعنيه هذه الكلمات عندما تخرج من قلبٍ مُوجعٍ مُورقٍ كقلبه، نادرٍ في البشر، ونادرٍ في الشجر، ونادرٍ في سماء الوطن.

ولقد اجتمعت له ثلاثةُ أنهار: نهر الإيمان، ونهر الحب، ونهر اللغة والبيان. ولذلك لا نشعر، لا يشعر أحد بالصحراء، ولا بالجفاف والعطش من حوله..