لم أكنْ على وعيٍ بأنّ حياتي ستتغير بعد ذلك تغيراً جذرياً وعنيفاً، وتتخذ مساراتٍ اخرى.
كان الذي استلم المحاولات نسيم الصمادي، والذي تابعها بفرح هو الصديق والأخ القاص والكاتب صالح الأشقر، الذي لم أكن أعرفه من قبل، لكنه استقبلني في مكتبه كما لو كنا عشنا طفولتنا معاً.
دعاني بابتسامةٍ وحميمية إلى بيته في العليا، وهناك أشار إلى مكتبته وقال اختر من الكتب ما تريد!!
وأذكر من بين الكتب التي اخترتها كتاباً عنوانه " الأديب ومفوّض الشرطة " وأعتقد أنني لم أعده إليه إلى اليوم .
وهكذا فتحت لي نافذة جديدة على الثقافة وهمومها، وأصبح منزل الأشقر صالوناً لنا ، وكان في تلك الأيام : سعد الدوسري، عبد الله الكويليت، وعلي الشامي، وعبد الله الصيخان أحياناً، أهم زواره وجلاسه.
كان الحديث يدور دائماً حول الجديد ، والأصوات الجديدة .
ولم يكن ذلك غريباً فقد كان الأشقر كريماً، وهو ابن الشاعر المعروف الكريم بندى يده وشعره وخياله عبد الله الأشقر، محباً لكل صوتٍ جديدٍ دون أن يعرفه.
كان يأخذ أعمال أناس لا يعرفهم إلى بيته ويقرأها، ويحتفي بها، ويدفعها نحو منابع الضوء، ويحرص على ظهورها بالشكل الأروع على صفحات ملحق الجزيرة.
وكان إذا ما وصلته قصيدة أو قصة قرأها على الجميع، وتحدث عنها بإعجاب، ثم تراه يكتب عنها بتوهج وحب لم نعد نرى مثله إلا نادراً.
لقد كانت دوافع صالح الأشقر جميلة ونبيلة يحركها حب الوطن وأهله، مصحوبة بوعي حاد بالواقع، وبتفاؤل كبير بالمستقبل.
ولذلك توهجت صفحات ملحق الجزيرة في تلك الأيام ، وقدّم لنا عدداً كبيراً من الأسماء القصصية والشعرية والثقافية بشكل عام من الجنسين.
لقد تعامل أبو طارق مع الثقافة والمثقفين بإنسانيته، وبقلبه الدافئ ليمنحهم روحه ووقته وبيته، وكتبه، وماله.
حتى إذا ما زرته في مكتبه في مستشفى الملك فيصل التخصصي وجدت ذلك التطابق التام .. ذلك التكامل الأخّاذ.
كما هو لدى رفيق دربه سعد الدوسري.
هوالأشقر إذاً يقابل الجميع بابتسامة دافئة ، ويجند نفسه لخدمتهم والعناية بهم ومتابعتهم وزيارتهم ، تماماً كما هو حاله مع سعاة الثقافة في جريدة الجزيرة أو في بيته.
إنه الإنسان المحب لأهله ووطنه، فأينما تضعه يتدفق بالجمال، ويجعل من نفسه جسراً لعبور الآخرين إلى ما يعتقد أنه حقهم في الحياة وفي الحلم.
عندما سافرنا إلى مهرجان الأمة الشعري الأول للشباب عام 1983 كانت حقيبة صالح مكتظة بأعمال لأدباء وأديبات من مختلف المدارس في حلمنا الأبهى.
وعندما نصبنا خيامنا طلب منا أن نجتمع لإعداد ملف عن الأدب السعودي الحديث لمجلة الأقلام الشهيرة .. وهذا ما كان.
وأذكر ، وليس بوسعي الإحاطة ببحر حبه، أنه اتصل بي قبل رمضان ليشكرني على مقالاتي هنا في الجزيرة ، وليحدد مقالاً بعينه، وهو المقال الصغير عن المثقف الكبير عبد الكريم العودة.
نعم هو صالح الأشقر يفرح أن يتجلى الحب والعرفان، ليس لشخصه، وإنما لأي صوت ساهم في تكوين سيمفونية الثقافة في هذا الوطن الكبير.
وصالح كعبد الكريم ، كعدد كبير من مثقفينا الحقيقيين يحضرون بصمتٍ مورق ، ويبتعدون بصمتٍ له اشتعالات في الذاكرة والوجدان.
ولعل القارئ المتأني لأعمالهم وأفعالهم يجد ما يضيء له الطريق للتفريق بين الثقافة الحقيقية، وبين التفاهة الاستهلاكية التي يركض خلفها، بل ويصنعها عدد كبير من محبي الأضواء، والعجلين إلى غير ما جهة أو هدف، في ساحاتنا اليوم.
ولعل في سير الحب التي كتبوا ما يظل صامداً وسداً أمام سيل الكراهية والحقد الذي نلمسه في الزبد المتشبث بالماء دونما جدوى!!