حين مررتُ أمام بيتك الذي لم يعد بيتك، لم يكن للمرور لهفة، ولا للشجر بهجة، ولا
للقاطنين دعوة ولا أحضان، ولم تكن في القلب رغبة للوقوف ولا للدخول بل رجفة وذبول،فظللت واقفاً ببابك في انتظار وردك الذي لا يجيء.

لم يكن في الشارع طولك، ولاخطواتك المديدة المتواضعة باتجاه المسجد، أو منه. لا الماء ينساب من تحت يديك ليرويالشجرتين اللتين بهتتا، ولا أحد يهتم بالعصافير التي هاجرت إلى حنوّ آخر.

هيدمعة لم تجهد العين، وآثرت البقاء مع حرقة القلب، مع دموع أخرى متشبثة بالحجراتوالنياط، متعلقة بذكراك، وخائفة ألا تكون موجودة حين تعبر بطولك الفارع، وجبينكالعالي، وبسمتك المنحوتة في صبر السنين.
لم يكن أحد يسمع لي إلا أنت، ولم يكنأحد يستمع ويستمتع إلاك
بحثت قبل فترة في عطورك فوجدتُ الأوراقَ التي كنت أهديتُكعلى مرّ السنين ولم يكن أحد يحسن قراءتها إلا أنت..

تلك الأوراق التي لم تكنقابلة للنشر, أو تلك التي كانت منشورة ووجدتها مرتبة كما أنت، منظمة كما هو وقتك،ونظيفة كقلبك ومواقفك.

غريبة هي الحياة فكل من كان حولك ممن مُنحت لهم الشهاداتالكبيرة اللامعة لا يحسنون القراءة، ولا الإصغاء ورغم ذلك لا نميز وجودهم.. وأنترغم تعليمك الغض تجمع الحكمة والصمت البليغ، والجمال الفصيح إما تحدثت.

كم كنانتبادل نظرات الاستغراب السريعة: ما هذه الوجوه الباردة التي لا مواقف لها؟! كأنيبعينيك تسأل.

الناس يا والدي هم الناس، لم يتغير شيء، سوى أن بيتك لم يعددافئاً، وشجرك لم يعد مورقاً كقلبك. وكرسيك اختفى من تحت عريشة العنب، لا أحد يهذبالورد، أو يصطفي البرتقال. لا الفلّ ينشد الماء، ولا الياسمين يذرع الهواء.

قبلأشهر أعددت لك البياض، وبدأت في كتابة قصيدة (نشرة أخبار لراحل)، كنت سأبوح لك فيهابأحوال أمتك من بعدك، وما ينتابني من غيظ وأنا أرى كل مشوه عازم على التشويه ينتسبلآل البيت، وكيف أصبح العجم يتحدثون باسم العرب، بل ويحكمون أوطانهم.. وأمريكا كمايقول درويش وراء الباب أمريكا.

ورغم ذلك لم أرسم على البياض حرفاً واحداً، فهلاكتفت القصيدة ببياضها، أم ان الأخبار لا تسر عدوا ولا صديقاً. 

أم أنني لا أريدأن أبعث لك إلا الورود الطائفية بعدما خنقتنا الطائفية التي تزرعها أمريكا فيأوطاننا؟!

فآهٍ منها، وآهٍ منا يا والدي.
وقوفاً ببابك أستعيد فماذا أرى؟!
لم تعد العواصُم عواصمَ،
ولا المغانمُ مغانمَ،
ولا الهزائمُ هزائمَ..
لا مواسم للحصاد، ولا براعم للولادة..
كل شيء أشبه بلا شيء، والفضاءات بطعمالضياع ونكهة العدم.

 

بالأمس مررت بالبيت بيتك فضاع مني بيت القصيد، وعرفت منبعدك سر ذلك العنوان: لا شيء يحدث، لا أحد يجيء!!

 بالأمس الذي لا يبتسم كأمسكاستعدتك لا كما أفعل كل صلاة، أو كل تقلب على فراش، فبالأمس لم أتمكن من الجلوسإليك، بل غادرت المكان بعد أن استقمت ببابك لأنه لم يعد يشبهك، لأنه لم يعد أنت.

وعزائي اليوم أن هذا الهدوء لي، أنا اصطفيته واجتبيته، أسست قواعده بالإيمان، وأثثته بالمفردات، زرعت أركانه وزواياه بالخضرة البكر، وسقفه وامتداداته بالأزرق الصافي، وأضأته بنور الصباح الساحر، أما جدرانه إن سألتِني فليس له جدران، ورغم ذلك تستطيعين رؤية اللوحات المعلقة على جدرانه في تناغم فتّانٍ إن أنتِ أمعنتِ النظر قليلاً، أو أطلقت لخيالك العنان.

هذه الدار داري، ليس لها أبواب، ولا يحرسها بوّاب، لا يعنيني إن كبرت أو صغرت، ما دام لي فيها هذا الركن الذي أسكنه كل صباح أبيض، مع ورقي الأبيض، وقصائدي البيضاء، يزينه  خيالي ووجدي فيتسع ليشرف على تخوم أوطان أحببتها، ترتفع فيه الجبال، وتهبط الأودية، وتنساب الأنهار، فيغدو جنة لا يسكنها كل زوج بهيج فحسب، بل وجوه الأحباب والأصحاب الذين نأوا، أو غادروا، أو ابتنوا أركاناً كركني.

هذه العزلة الملاذ لي، أنا اخترتها، ورضيت بها فاغتنيت، وهي لا تشبه عزلة أخرى، فلي فيها أحباب يلونون أوقاتي، وإما تأخروا شددت رحالي فزرتهم، وهم وإن رأوني وحيداً، ولم يلحظوا ركني وهدوئي، إلا أنه معي هنا وسط صخبهم وجنونهم، دلالهم وفناجين قهوتهم المرة الحالية.

هذا الشجر والنخل لي وإن كان لغيري، أنا الذي رويته بحنو عينيّ، وأنا الذي خلعت عليه الخضرة بصفاء روحي، أنا الذي أحببته، وأنا الذي كتبته قصائدَ تبقى، وإن شاخ في مهده، أو داهمته صروف الدهر وبناته.

أما هذه الطيور يا ابنة الطيبة والحنان فاعلمي أنها ليست لي، وإن أحببتها فعلمتها الطيران، والقفز، والمناورة، وهي وإن هاجرت، أو اختفت في أعشاشها تعود لتغرد لي، أو تأتيني بأخبارها، أو لتؤنبني على أخطائي، كما فعل الهدهد قبل حين، فهل تذكرين؟!

إنه ذلك الهدهد الذي عاد ليقيم قرب بيتي، وقد تقبل عذري، بعد أن استمع لنوحي وبوحي:

 

فأطلقْ خيالك يا قاتلي العذب

شدّ انتباهي

وإنْ شئتَ قتلي

وإن شئت عفواً

فمرّ عليّ كثيراً

لتسألَ عن صحتي

أقمْ قرب بيتي

هناك أقمْ

واستعدْ صفوَ روحي

ومن دون قتلٍ

أعد جذوةً للحياةِ بحكمتك الباهرةْ.

 

وكان أنْ رحِمني فغضّ الطرف عن جهلي، وذلك لقتلي أحد أبناء سلالته طفلاً، فلم يأخذ بثأره، بل صفح وعفا، وأعطاني فرصة لحياة جديدة، وفسحة لاكتمال قصائد أخرى، إن أراد الله بي خيراً، ولي عمراً.

 

ولعلك شاهدةٌ، فأنا لا أدعي ملك ما ليس لي، ولكنني لن أعتب إن لم تتذكري، ولن أغضب إن كثر القول بأنني شاعر حالم، أو كاتب واهم، أو إنسان مجنون، فما يهمّني بالفعل هو أن يصلَ خطابي وبياني وشعري، وأنْ أُخرج للناس ما في قلبي من دفء  وحب، وما في روحي من عزّة وجمال، وما في ضميري من صدق ونقاء، وما في عقلي من حقيقة وخيال..

 

تلك هي عزلتي، وقد سألتِني، تلك هي عزلة الجمال.