« كان يبكي وليس يدري لماذا/ ويغنِّي، ولا يُحسُّ التذاذا. وينادي: يا ذاك يُصغي لهذا/ وهو ذاك الذي ينادي وهذا».

منذ أن فكرتُ في كتابةِ هذه الرسالة إليك قبل أيام وأنا أرى وجهك الباسم وأسمع تعليقاتك الساخرة، وها هي قصائدك تملأ سمعي، وتخرج من بين حروفي وأنا أدون هذه السطور بقلبي لا بيدي.

وأصدقك القول إنني كنت بصدد كتابة رسالة لأبي تمام بعد أن بعثتُ بواحدة لأبي الطيب المتنبي، لكنني تذكرتُ قصيدتك الملحمة، أبو تمام وعروبة اليوم، فقلت أكتبُ إليك، وبيننا ما بيننا من الحب والتقدير، والهمّ الواحد، والمواقف المتشابهة، والرحلات المشتركة، والمهرجانات الشعرية، والمدن والعواصم من صنعاء إلى جدة، إلى بغداد، إلى عمّان، إلى مسقط، وستسألني بدقة ملاحظتك المعهودة التي يفيض بها شعرك ونثرك، لماذا تختار الأموات مثلي لا الأحياء لتراسلهم؟

والحقيقةُ أن هذا أمرٌ شائك، فلطالما بعثت برسائل لأناس لا أعرفهم، أو أنني أعرفهم لكنني لم ألتقِ بهم، كما فعلتُ في رسائلي التي وجهتها لأمريكا عبر نخبة من قادتها وفنانيها وجنودها الأموات والأحياء، وكذلك واجهاتها الثقافية والعسكرية، فهم رغم تطورهم المادي، إلا أن أرواح معظمهم فارغة، ومعارفهم لا تتجاوز ما يمكّنهم من عيش أنماطهم الاستهلاكية، وهم يحبون أن يعيشوا حياتهم في رفاهية وسعادة، ويحرقون في سبيل ذلك أوطان الآخرين، ويقلبونها على ساكنيها، بالقوة العسكرية، وبسياسات التفرقة، ولن أسهب هنا فأنت خيرُ من يعرف ذلك.

فقد قلت عنهم مبكراً:

 وَأَقْبَحَ النَّصْرِ نَصْرُ الأَقْوِيَاءِ بِلاَ

              فَهْمٍ سِوَى فَهْمِ كَمْ بَاعُوا وَكَمْ كَسَبُوا

 أَدْهَى مِنَ الجَهْلِ عِلْمٌ يَطْمَئِنُّ إِلَى

               أَنْصَافِ نَاسٍ طَغَوا بِالعِلْمِ وَاغْتَصَبُوا

  قَالُوا هُمُ البَشَرُ الأَرْقَى وَمَا أَكَلُوا

               شَيْئَاً كَمَا أَكَلُوا الإنْسَانَ أَوْ شَرِبُوا

 وقد راسلتُ والدي من قبل في حياته، وبعد وفاتهِ شعراً ونثراً، رسائل أخبرهُ فيها بأوضاعنا التي لا تسرّ إلا الأعداء، وكان آخرها نشرةُ أخبار لراحل، فأنا مفتونٌ بالرسائل منذ طفولتي، ثم غربتي للدراسة، ثم ظللت أراسل أصدقائي الأدباء والشعراء عبر نوافذ العالم العربي كلما عدتُ من رحلة بينهم، أو مهرجان. ونحن قد نعود من غربة المكان أناساً آخرين بحسب قدرتنا على التغيّر والتغيير، ورغبتنا فيهما، لكننا لا نغادر غربة الروح التي ترسمُ ملامحنا بحزن خفيض، وأحياناً بغضب وفورة عارمة. هي غربة مركبةٌ إذاً، قلْ هي غربةُ الشاعر ما يدفعني لذلك يا أمير الشعر الغنيّ الفقير. 

 

واليوم أجدني محتاجاً بشدة لتدوين هذه الرسائل الدافئة كحنين المحبين، وبإطلاق هذا البوح الحار عصافيرَ في كل الجهات، بل حماماً زاجلاً لا يخطئ العناوين، فأنا أشعر بغربة شديدة رغم إقامتي، كأنني مسافرٌ على جناح الألم بين جراح العواصمِ والأوطانِ التي تنهار في لمح البصر، والفتن التي تشتعل، والفوضى التي تعم فتطفئُ مشاعلَ الحضارةِ ولا ينجو منها مكانٌ أو إنسان، لا شيء يشبه شيئاً، ولا أحد يشبهنا، حتى بتنا لا نشبه أنفسنا التي يعتريها هي الأخرى الخريف والرماد، فأصبحتُ أسال كل حين، من هؤلاء، أهُم منا، أهم من أهلنا، هل هذا الجنون من هنا، هل هذا القتل والدمار من صنعنا، هل هذا الجهل، وهذه الهمجية والبربرية من رحم أمتنا المحبة الرحيمة؟ وللحق فإنني اليوم، وكثيرٌ معي لم نعد قادرين على الفهم أو التحمل، فتوالي تساقط العواصم والمدن أمر مرعب لا يصدق، وجميعها لا تتغيّرُ لترتقي كما يوهموننا بل تسقط سقوطاً عنيفاً في الفتنة والظلام المادي والمعنوي، مدنٌ بلا خدمات أو أمن، مدنٌ لم يعد لها من المدينة والمدنية نصيب. مدنٌ أصبح القتلُ فيها يا سيدي كالخبز للحياة اليومية:

 

«هذه كلُّها بلادي وفيها

                  كلُّ شيءٍ إلا أنا وبلادِي»

هكّذا كنت تقول يا سيدي، ترى ماذا ستكتب لو عدت اليوم وأبصرت بقلبك وعقلك ما يحصل في أوطانك: اليمن مهد الحضارة، ودور الخلافة والحكمة والتدوين كما في العراق، وسورية؟! أو في مصر هبة النيل؟! أو في السودان أو لبنان أو غيرها من الأوطان؟!

ألست القائل مطلع السبعينيات الميلادية:

 مَاذَا جَرَى يَا أَبَا تَمَّامَ تَسْأَلُنِي

               عَفْوَاً سَأَرْوِي وَلا تَسْأَلْ وَمَا السَّبَبُ

  يَدْمَى السُّؤَالُ حَيَاءً حِينَ نَسْأَلُُه

           كَيْفَ احْتَفَتْ بِالعِدَى «حَيْفَا» أَوِ «النَّقَبُ»؟

اليوم يا صاحب الشعر لا تسل عن فلسطين، سيدميك ذلك، ويميتك مرةً أخرى، فهي لا تذكر إلا في المناسبات النادرة، فقد تغيرت البوصلة، بل تعطلت، كما تعطلت لغة الكلام الواضح الناصح الحر بعد أن تعطل الفكر.

لأنهم كما تقول:
 يمضونَ يأتونَ كالأبوابِ ما خرجوا

                   مِنْ أيِّ شيءٍ ولا في غيرِهِ دخلوا.