نقفُ في البدء تحت ظلال القاف مع قافيةٍ نظَمَ درّها شاعرُ العربيةِ العملاقُ أبو الطيب المتنبي، فجعل من الحرف الذي لم نتعوّد عليه كثيراً كموسيقى في الشعرِ مقطوعةً قابلةً للعزفِ، وقادرةً على التحليق.

نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ

          جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا

أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى

        كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا

من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ

       حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ

خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا

       أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ

فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ

      وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ

وَالمَرْءُ يأمُلُ وَالحَيَاةُ شَهِيّةٌ

     وَالشّيْبُ أوْقَرُ وَالشّبيبَةُ أنْزَقُ

وَلَقَدْ بَكَيْتُ على الشَّبابِ وَلمّتي

      مُسْوَدّةٌ وَلِمَاءِ وَجْهي رَوْنَقُ

حَذَراً عَلَيْهِ قَبلَ يَوْمِ فِراقِهِ

     حتى لَكِدْتُ بمَاءِ جَفني أشرَقُ.

ويرتبط حرف القاف ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة والعلم، فهو في الكتابة والقراءة: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} و{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}، وهو في القلب والعقل، وهما أساس الفهم والوعي والإدراك والإبصار، وتمام ذلك مع المقلة والحدقة والبصر.

وهو في القول، وأفضل القول القرآن فهو الحقّ الفصل {ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ}. ويتردد حرف القاف في سورة «ق» بعدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم، أي تسعة عشر، وهو حاضرٌ كذلك في الفلق والعلق والانشقاق والقيامة والواقعة. والقاف في الحق، والإسلام الدين الحق، ودين الحق. ومنه الشرع والقانون. وهو في القسم، والناس في العالم تقسم على كتبها المقدسة، ونحن نقسم بالله العظيم على كتابه الكريم. والله منشئ الكون يقسم بما يشاء، فأقسم بمواقع النجوم، {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.

وهو في القًدَر، والقدْر، والقدرة والقوة، والقبول والانقياد واليقين والتقوى، والبيت العتيق والقبلة، وهو في النقائض، وفي الأضداد الرقةُ والرفق والقسوة، والقِران والطلاق، والقمة والقاع، والقيام والقعود، والتقريب والتفريق والإقصاء، والاستقرار والتنقل، والودق والقطر والقفر والفقر، والقبر:

وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفْرٍ

           وليسَ قربَ قبرِ حربٍ قبْرُ.

وهو في القارعة والقيامة، والقرار والإقامة. وهو في القضاء والعقود والمواثيق والقصاص، وهو في الناس القبيلة والقوم، وفي المال والاقتصاد النقد والقيمة والقوت والصناديق والقروض والأقساط والقبض والصدقة والرزق، والرزق ابتلاء واختبار في الحالين: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} 15-16 الفجر.

وهو في الخَلْق، والله القوي القدير خالقُ كلّ شيءٍ خلقنا في أحسن تقويم، وقادنا للخلُق القويم عبر هديه، وأخلاق نبيه الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وللقاف صديقٌ وفيٌّ هو الفاء، بل هو منه في بنائه كالغصن للشجرة، فهما متلازمان فتراهما في السراء البدء والفأل في الفلق والأفق وفي تفتق البراعم، وفي الطريق الرفيق والقافلة والتوقف، وفي المراد التوفيق، وفي التراحم الرِّفق والشفقة، وفي الضراء الفاقة والفقر والفراق والفقد. وهما في الدين واللغة الفقه، وفي الأثر الاقتفاء، وفي عمود الشعر القافية، وفي الأبواب، وبعض قلوب وعقول الناس الأقفال. وفي الحروب الكريهة القصف والقتل والقهر والرق والتفرقة والتمزيق والقنابل وقاذفات الموت والدمار، وفي الذنوب والجرائم الاقتراف.

والحروب والانشقاقات والقلاقل اليوم على قدمٍ وساق، لذلك أنتقي لكم بعيداً عن قلقها، قريباً من قلقِ العشاق الجميل، هذا القطف للسان الدين بن الخطيب وهو يغني القاف برقة فائقة:

جَاءَتْ مُعَذِّبَتِي فِي غَيْهَبِ الغَسَقِ

              كَأنَّهَا الكَوْكَبُ الدُرِيُّ فِي الأُفُقِ

فَقُلْتُ نَوَّرْتِنِي يَا خَيْرَ زَائِرَةٍ

           أمَا خَشِيتِ مِنَ الحُرَّاسِ فِي الطُّرُقِ

فَجَاوَبَتْنِي وَدَمْعُ العَيْنِ يَسْبِقُهَا

           مَنْ يَرْكَبُ البَحْرَ لا يَخْشَى مِنَ الغَرَقِ

والحياةُ دقائقٌ وثواني كما تقول دقات القلب للشاعر أحمد شوقي، والمستقبلُ يشرقُ فيطرقُ الباب فيصبح الحاضر المقيم، ثم يغربُ فيصبحُ الماضي القديم، وحقيقة الأمر أنّ طريقَ العمرِ مهما طال يقودُ إلى أولهِ، وحرفُ القاف هنا يعيدنا إلى مطلع مقالنا مع المتنبي العظيم، حيث تتجلى اللغة والحكمة والشعر:

أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ

            وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ

جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكونَ كما أُرَى

           عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ يَخْفِقُ

مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ

         إلاّ انْثَنَيْتُ ولي فُؤادٌ شَيّقُ.

وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ

        فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ

وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ ذَنْبي أنّني

        عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ منهُمْ ما لَقُوا.