لا أتخيلُ أحداً لا يترقب السحاب، ويراقب تشكّله بعيني طفل ودهشته مستلقياً على ظهره، أو سابحاً في تأملّهِ، فهذه السحابة سمكةٌ، وهذه أسدٌ، ها صارتْ جواداً، ها ركضتْ كطفل، ها تلاشت كقطن.
أما تلك البعيدة هناك فماردٌ، وجارتها فانوسٌ سحري.
أما المتعة الحقيقية فهي عندما تراقبُ من يراقب السحاب بحنوٍّ وحبٍّ دون أن يشعر، وقد كنت في شتاء مانح أراقبهما معاً: هيَ وهوَ، أنا الذي كنت أمسك بالسحاب في طفولتي في جبال الطائف، وقمم السروات، وهي عندما تراقبه تجعل يومي ممطراً بالجمال والشعر والصور، لأنها تتحول إلى طفلة صغيرة بألوان قوس الله.. وتكون مشرقة مدهشة كدهشة القوس في السماء.. وانعكاساته في عينيها، وضحكاتها وقفزها في كلّ مرة تصطاد غيمة في تشكل مبهر جديد، وتظل الصور والمشاهد تتابعُ فيتتابعُ قفزُ الفراشِ في حركاتها وإيماءاتها، وتلوَنُ الضوءِ وانكساراتِهِ على خدّيها. هذه الصور لا تشيخ، ولا تغادر الذاكرة. أوَ ليس من الجميل في هذا العالم المولع بالحروب، ومع هؤلاء البشر المولعين بالقتل والشرّ والكفر كأن لم تتنزل عليهم كتب السماء، أنْ يعود المرء لطفولته، وبراءته الأولى، أوْ أنْ يترك مجالاً للآخرين كي يعيشوا طفولتهم، وأنْ يكتشف كنوز جمالهم، فيتحول هو إلى جزء من هذا الجمال، ويغسل ما اعترى روحه من كمَد وقلق وخوف تحاصره به قوى الشرّ التي لا ترتوي من سفك الدماء، ولا تكتفي من قتل الحيوات، وحرق الأخضر واليابس، ونشر الرعب والقبح والسواد على هذه الكرة الزرقاء. والسحاب يمطر الخير، وشياطين الإنس تمطر القنابل الحارقة والمشعّة، ويمطرون الأبرياء بوابل من الرصاص القاتل.
والسحاب كنوز الأرض تُفتح في السماء، وهو قطن حقولها، ومختبر الرياح وأجنحتها، ودعاء العطشى، والعشاق الطامعين بوصل، وهو وصف الحبيبة، والكريم، ووجه الحليم راضياً، وساعة الغضب.
والسحاب اسمٌ لمجموعة من الأفعال التي لا تتوقف صاعدةً هابطة، فهو دورة حياة، وحياةُ دائرين وديّارين. والله يثير ويزجي السحاب، ويبسطه في السماء كيف يشاء، ويؤلف بينه، ويجعله كسفاً وركاماً فوَدْقاً ليكون صيّباً وماء ثجّاجاً، فتهتزّ الأرض وتربو، فتُنبتُ من كل زوجٍ بهيج، ثم يعيد الكرة ويعود إلى السماء سحاباً خفافاً خاليات من الرعد للأحبة، وثقالاً للأرض، وصبر المواسم والشهور.
ونحن ندعو الله كلما شنّ الأعداء حرباً علينا أو غارةً، أن يرزق أهلنا سحاباً خفافاً، ثقالاً على الأعداء لتسقط غربان الحقد والدمار، بل نحن نطلبه كل حين أن يصيبهم بعارضٍ يتوهمون أنه ممطرهم.
والسحابُ يبكي، فتفيض دموع الغمامة، فيضحك في عيوننا الزهر.
والسحابةُ تشنّ، وشنّها خيرٌ ومطر. وهي أنثى بمفردها فهي غيمةٌ ومزنةٌ ومعصر، وفي جمعها فهنّ المعصرات.
وقد وجد المبدعون فيه عبر الحضارات غذاءً لأرواحهم المرهفة المتعطشة للخير والجمال، فكرسوا ما فيه من خير وجمال، وكان مادة دسمة لإنتاجهم وتجلياتهم، بحيث يندر أن نجد نتاجاً عبر سير المبدعين يخلو من جماليات السحاب، وتجليات المطر، شعراء وروائيين وتشكيليين ومغنين.. وها هو الفنان البلجيكي رينيه ماجريت يختزل المعنى في لوحته الشهيرة: La corde sensible
ويضع السحابة في كأس،فتتعدد قراءاتنا، ويسكب كلٌّ منا لنفسه ماءً زلالاً من رحيق الوعي والحياة والفن!!