غريبٌ عجيبٌ أمرنا نحن!!
نذهب إلى الحقول, حقول المعرفة والإبداع والقراءة, بل نذهب إلى الحياة بثرائها وتنوعها وحيويتها مدججين بالسهام والنبال والسيوف القواطع, مدججين بالموت, محمَّلين أحياناً بالاستخفاف وأحياناً بالكراهية والازدراء.


نذهب متسقطين للأخطاء, مسيئين الظن, محيلين كل مفردة أو جملة إلى مرجعيات الشك والسوء والسواد، رامين كل حياة مختلفة مثمرة بحجارة الموت.
نذهب بلا جمال فنخرج بالقبح.
وندخل بدون تحية فنخرج بالويل والثبور.
ونجتاح المكان بدون سلام فنخرج بحروب شعواء.
ندخل إلى ما لانفهم, أو لا نميل إليه, أو ما هو خارج دائرة معارفنا وذائقتنا, فنخرج أساتذة في سوء الفهم, وقلب الحقائق, وتشويه البياض.
لا نعتني بصغارنا, ولا نحترم كبارنا, ولا نعطي للناس فرصة أن يعبروا, أو يتشكلوا..وكأن قلة الأدب, والتنكر للآخرين, وإفشاء الأذى ضرورة معرفية, وأدبية, وقرائية, ونقدية.
ندخل إلى أمسية شعرية لا نستسيغ شعر شاعرها, أو لا نتذوقه, أو لا يمثل مدرستنا, لنبذل كل ما في وسعنا للظهور, ولو بسؤال مكرور وتافه للتعكير, والتنكيد على من أتوا للاستمتاع.
ونكتب عن قصيدة أجهدنا أنفسنا طوال الليل لكي نعثر فيها على أي خطأ عروضيّ, ولو كان فيه قولان, أو خطأ مطبعيّ, أو إن لم نجد أوجدنا أي سبب, لمقاضاة القصيدة ولو بما كان يضمره الشاعر, أو لم يقله.
إنه لمن المهم في تفكيرنا المعوج أن نجلبها إلى طرف الصحراء لندفنها هناك كالموءودة لأنها ولدت فقط.
ليس من المهم أبداً أن نستوعب القصيدة, ولا من المهم أن نشعر بها, أو نناقشها.
المهم أن نمسك بخطأ ما, لو لم نجده لابتكرناه.
يحدث هذا مع مبتدئ أو مبتدئة, كما يحدث مع أسماء معروفة.
نحن نحاكم أيضاً بالأسماء, ولدينا تصنيفٌ لكل اسم, وخطابٌ جاهزٌ لكل مبدع.
يا الله هل يمكن أن يكون في دواخلنا كل هذا السواد, بحيث لا يمكننا البحث عن الجمال فيما نقرأ أو نشاهد أو نعيش؟إ
حتى في الشارع نظلم الناس بأعين الريبة والشك, نجرد الألوان من ألوانها, ونلغي الحياة من مضمونها, ونقف على القبور التي أعددناها لاستقبال الآخرين ودفنهم قبل أن نعرفهم, قبل أن يموتوا, ولا نعلم أننا نقف عليها حتى أصبحنا نحن الأموات.. حتى صرنا جزءاً لا يتجزأ من ترابها ولحودها.
نحكم على القصيدة من أول قراءة, وعلى القصة من نصف قراءة, وعلى معرض تشكيلي   فيما نحن مشغولون بالأضواء والأحاديث, وليس من المستغرب أن نحكم على كتاب أو ديوانٍ ونحن ننتظر توقيع صاحبه.
نحكم على الرجل لأن ابن عمه ضابط, وعلى الطالب لأنه في القسم الأدبي, وعلى المعلم لأن شماغه البسام.
نحكم على المطلقة لأنها مطلقة, وعلى الشابة لأنها لم تتزوج, وعلى الأرملة لأن زوجها مات..
نحكم على المرأة لأنها امرأة, وعلى الطفل لأنه ليس برجل: " خليك رجّال ".
نحكم على النخلة لأنها ليست شجرة تين أو زيتون, وعلى الزيتونة لأنْ لا رمان فيها.
وفيما لو أقنعتنا النخلة الصابرة ذات يومٍ بأنها نخلة طيبة فإننا سنعنفها لأنها لم تكن سُكّريةً.
يحدث كل ذلك ليس لأنه من الصعب أن نرضى, بل لأننا تعودنا على التقليل من قيمة وجهد الآخرين!!
هكذا يرِدُ كثير من قراء الأدب والفنون والحياة بمجملها الوِرد.
ولو وردوا باحثين عن الحياة في الحياة, مزودين بالجمال, ناهلين منه, وواهبيه, لأعشب وجدانهم, ولأطلعوا من كل ثمر, ولكانت حياتهم, قبل حياتنا, جميلة مورقة هانئة.
ولكان لكتاباتهم طعم السكّر.. وفعل السحر.
ولكان لحضورهم عبق الورد.
ولكنا أول الواردين لمائهم, وأول الشاكرين لأفضالهم.