الذين يتهمون الناس بالموت، أو يصفونهم به، هم في الواقع قتلة مجردون من جمال الروح، وجمال القيمة والمعنى، وهم تماماً مثل الذين يمنعون الحياة، ويمنعون أن يكون لها معنى، وهو مشهد يتكرر سواء على نطاق الأسرة، أو المجتمعات، أو الدول.
والجمال اسم وحالة وشعور، وهو عنوان يدل على الغنى مضموناً، أو شكلاً، أو شكلاً ومضموناً وهنا اكتماله. وهو من ناحية الفعل مهمة إنسانية راقية، من حيث طلبه، وتلمسه، والبحث عنه، واكتشافه، وتجسيده، ونشره، ونثره على الناس كالورد، كونه ضرورة كسباً ومنحاً. والحروب، عكس الفتوح، يسعى مسعّروها، أول ما يسعون إلى قتل الجمال: جمال المكان، وجمال البشر.. أي القضاء على جمال الإنسان، وليس هزيمته فحسب، بل كسر روحه. فهم يدمرون الحضارة والقيم، ويكسرون روح الانتماء، والمواطنة لدى من يحتلون، ويستعمرون. ومع الاستعمار الجديد ازدادت وتيرة التدمير، ولم يعد المستعمر يعمر أي شيء، مهما ادعى ذلك، بل إن التاريخ، قديمه وحديثه، يسجل للمستعمرين أكبر عمليات إبادة، وتدمير، ونهب، وتشويه، وتعطيل، ونقض للبنى الاجتماعية والروحية، وسرقة للآثار ومدونات الحضارة. وقد لمسنا ذلك في العراق، وما زلنا نفجع كل يوم من نتائج ذلك، كذلك الحال في ليبيا حيث تتفجر الكراهية والحقد والتصفيات، ويصبح القبح سيداً، ويصبح القتل تحية العابرين.
وما عملية إعادة الإعمار، وإشاعة الثقافة الجديدة إلا لعبة سياسية، تغطي نهم الشركات العابرة للقارات، والسرقات الكبرى التي يقوم بها المحتل وممثلوه، والمستفيدون من وجوده من تجار الحروب، في أقبح عملية نصب وتزوير علني، تفضحها الوقائع والبراهين مهما تحجبت بالكلام السياسي المنمق المعسول.
إذاً هدف المستعمر هو تشويه الجمال الذي تتمتع به أية حضارة، أو وطن، بل هو يحرص دائماً على التقليل من قيمة هذا الذي يغزوه، وتشويهه، وتقديمه في أبشع صورة ليبرر أنه المنقذ الذي جاء ليخلص البشرية من هذا القبح، أو أنه جاء ليرسيَ جماله هو على حطام هذا التخلف عبر إرساء الديمقراطية والحرية والانفتاح، وكل هذا محض سراب، وكذب، وزيف. ومن هنا كثر استخدام مفردات تنمي عن أفعال لها صلة بالقتل كالفوضى الخلاقة، والاجتثاث، والتغيير، بل يذهب المستعمر الجديد إلى مفردات لا مواربة فيها: كالقتل، والتصفية، وهو ما يفعله في النهاية، بعد عملية تهيئةٍ للرأي العام العالمي قد تستغرق سنوات، وقد تتم في غضون أشهر قليلة، يكون فيها قد استخدم كل أنواع أسلحته، لتدمير وحرق الأرض استعداداً لتهيئة الملعب للاعبين الكبار.
وهنا لا يهم، ولا أحد في الحقيقة يهتم، كم عدد المدنيين الذين سيقتلون ويبادون ويختفي أثرهم، والرقم في حدود المليون شخص، رقم مقبول حسب الساسة الغربيين، وهو ما قالته بصراحة لا نظير لها، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة اليهودية مادلين أولبرايت في مقابلة لها، كثمن مقبول لإرساء ديمقراطيتها المزعومة في العراق.
وعلى ذكر اليهود، فقد قام صهاينتهم، بتشويه صورة الفلسطيني، والعربي عبر العالم، فكان الرد الأكثر جدارة ونجاحاً، هو تعميق الثقافي، والعمل عليه بالنسبة لنا.. وهو ما آتى أكله، واتضح عبر قبول عضوية فلسطين في منظمة اليونسكو.. فالواقع يثبت جدارة الثقافة الفلسطينية العربية بذلك منذ أزمان، ولم يقف ضد هذا الجمال الحضاري سوى إسرائيل وأمريكا.. وهما أكثر دولتين في العالم تشنان الحروب على العالم، ولا عجب فإسرائيل ربما تكون الدولة الوحيدة في العالم التي تتبنى الإفساد في الأرض كآيديولوجيا: فهي تمارس كل فعل قاتل ممكن ضد الشجر والحجر والبشر: ومن ذلك الاحتلال، وشن الحروب، والقتل، والأسر، والتدمير، وجرف الأشجار، وتجريف التربة، ووضع العراقيل والأسوار.. ولدينا في لبنان خير دليل، بعد فلسطين الضحية الأولى بالطبع.
لكن لموضوع الجمال أبعاد أخرى، وجلادون وضحايا آخرون، على صعيد المجتمعات والبلدان، سواء أكانت محتلةً مغلوبة على أمرها، أم محتلة وغاصبة.
فالتركيز على المناحي الجمالية ليس مطلباً فحسب، بل قيمةٌ عليا وضرورةٌ قصوى، يعززها التمسك بالقيم والهوية، وزرع ذلك في شخصية الإنسان منذ الطفولة، ليكون لدينا جيلٌ قادرٌ على هزيمة مشعلي الحروب الجديدة على الأرض أم عبر فضاء الإعلام والتقنية.
وفي الحالة الفلسطينية أكبر درس ودليل على أن المقاومة ليست فعلاً عسكرياً فحسب، بل هي فعل جماليّ وثقافيّ وحضاريّ بشكل عام. وقد احترت في عنوان هذا المقال: أيكون الجمال والقبح، أم القبح والجمال، وبدا لي الأخير مقنعاً، كون الحروب الكريهة القبيحة بداية كل شر، وأملاً في أنْ يمحوَ الجمالُ القبحَ، وأنْ يكون نهاية كلّ شيء، وأمْر، وبداية جديدة لكل ما ينمو من شجر معرفة وحضارة من رماد الحروب المفروضة على العالم.