أما الندى فهو في محيط المحيط: (( ندِي الشيء يندى نداً ونداوةً: ابتلّ.

والأرض أصابها ندى. وما نديت بشيء تكرهه أي أتيت.

وأندى الرجلُ أنداءً:  كثُر عطاؤه. وفلان: تسخّى وتفضّل. وتندّى الرجل: تسخى وتفضل)).

 

(( فالندى: الجود، وفلان نَدٍ وندِيّ الكف: أي جواد)).
ومنها:

ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطونِ راح ِ

وأما ((النون)) : " فهي الحرف الخامس والعشرون من حروف المباني . وهي في العبرية والسريانية نون ومعناها سمكة. والنون في حساب الجُمّل عبارة عن خمسين من العدد".)).

وهي تاتي على خمسة أوجه: التوكيد، والتنوين، ونون الاناث، ونون الوقاية وهي نون العماد، والنون الزائدة.
وتفصيل ذلك ليس من غاية هذه المقالات.

ونحن نروم من هذا المقال، وهذا النهج أن نفتح نافذة أو نوافذ على منابع النون، ومكامن نضارتها. وأن نقتبس من نارها، وننهل من نورها. ونكحّل أعيننا بمنثورها. ونشنّف آذاننا بأنغامها. ونحن هنا لا نؤصّل، ولا نجذّر. إنْ  هو إلا نهرٌ قادنا خلفه أنّى تثنىّ.  خبرناه بالتنقّل في الزمان والمكان. واكتشفناه في ثنايا البيان، واختلافات اللسان.

وأول البيان القرآن ونفحاته النورانيّة، فأحاديث خير البريّة. ودون ذلك شواهد من شعر العرب ونثرهم. ما انتظم بالتقعيد، وما شذّ وشاع. من جنّة عدن إلى بغدان، ومن نينوى إلى تطوان.
من قرون ما قبل النورالنبوي، إلى نوازل ونير القرون الحديثة.
وقد حافظت فيها هذه اللغة العظيمة على رونقها ومكانتها.

 وثبت مع الأزمان أن لابيان كبيانها، ولا نسيج كنسيجها، ولا أذن كأذن أهلها. لا أنغام كأنغامهم، ولا أحزان كأحزانهم. لا ندىَ كنداهم ، ولا جوى كجواهم. ولا سعياً للمجد كسعيهم، ولا شجاعة أمام الموت كشجاعتهم.
وقد انعكس كل ذلك على لغتهم وإبداعهم.

إذاً ها نحن نطرق باباً من أبواب اللغة العربية التي كرّم الله أهلها بالقرآن. فرفع من شأنهم بين الأمم (( كنتم خير أمة أخرجت للناس..)).

وحفظ لهم لغتهم عاليةً على لغات العالم ، وحماها من الانقراض ، والانكماش، كما حدث لأعظم  لغات الفكر قبلها: ((اللاتينية)).
وفي هذه الآيات القرآنية الكريمة إشارات واضحة، ودلالات عظيمة على رفعة العربية من ناحية، وجمالية النون بتكرارها الفريد والثري من ناحية أخرى:

((إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)) يوسف(2)

(( وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن أتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من وليٍّ ولا واق)) الرعد (37)

(( وقد نعلم أنهم يقولون إنما يُعلِّمه بشرٌ لسان الذي يلحدون إليه أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبين )) النحل (103)

(( وكذلك أنزلناهُ قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث الله ذكراً )) طه (13)

(( وإنه لتنزيل ربِّ العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسانٍ عربيٍ مبين * وإنه لفي زبر الأولين * أو لم يكن لهم آيةً أن يعلمه علماء بني اسرائيل * ولو نزلناه على بعض الأعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين)) الشعراء (199)

((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ)) فصلت 44.

(( وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر به أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لاريب فيه فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السعير )) الشورى(7)

(( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)) الزخرف (3)

(( قرآناً عربياً غيرَ ذي عوج ٍ لعلّهم يتقون )) الزمر(28)


يعتبر القرآن الكريم ككل مرجعاً للنون ونداها بشكل عام ويتجلى ذلك في سورٍ بعينها دون غيرها وهي كثيرة كالانفطار، والمطففين، والمرسلات، والمدثر، والمعارج، والحاقة، والقلم، والطلاق، والواقعة، الزخرف، الصافات، ياسين، والشعراء. وكذلك في آيات تميزت بوفرة النون وجمالها الأخاذ شكلاً وصوتاً . وننشد من انتقاء هذه الآيات الكريمة على سبيل المثال لا الحصر، الوقوف على النون في تجلياتها في كافة المباني، وتثبيتها كمرجع لكافة الألسن واللهجات للقبائل العربية.

وكيف تنقلت هذه النون وتشكّلت، لتصبح ((نون)) البيان العربي الساحر.
ونحن هنا لسنا بحاجة الى لغويين أو ألسنيين أو حرفيين. نحن هنا بحاجة إلى عيون مدربة، وآذان مجربة لنستمتع بهذا الايقاع الفريد لحرفٍ بديع من أحرف هذه اللغة الخالدة وهي تجوب التضاريس متنقلة لتنبت، من المزن، حوالينا وعلينا، نباتاً مثمراً قطوفه النون، دانية للسان. أي أننا لسنا بحاجة هنا إلى التنظير، والتقعيد، رغم أهميتهما،  للتنبه إلى الماء الذي ينساب بين أيدينا:

إنها النون تنساب بين أيدينا في هذه الآيات الكريمة المختارة:
(( قال  ربِّ إني أخافُ أن يُكذبون ِ * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم عليّ ذنبٌ فأخافُ أن يقتلون ِ)) الشعراء (12 – 14).
(( فإنهم عدّوٌ لي إلاّ رب العالمين* الذي خلقني فهو يهدين* والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضتْ فهو يشفين* والذي يميتني ثم يُحين ِ)) الشعراء (77 – 81 )

(( لأُعذبنّهُ عذاباً شديداً أو لَأذبحنّهُ أو ليأتينّي بسلطانٍ مُبينٍ)) النمل(21)
(( قال إنيّ أريدُ أنْ أُنكِحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتين عَلَى أن تأجُرنَي ثماني حِججٍ فإن أتممتَّ عشراً فمن عندك وما أريد أن أشقَ عليك ستجدني إن شاء الله من الصالِحِين)) القصص (27)
((فلما قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بأهلِهِ آنس مِنْ جانب الطُور ِ نَاراً قَال لأهلِهِ امكُثُوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبرٍ أو جذوةٍ من النار لعلكم تَصطلُونَ )) القصص (29)
(( وأخي هارُونُ هُو أفصحُ مِنِي لِساناً فأرسِلهُ معي ردءاً يصدِّقني إنيِ أخاف أن يُكَذِبُونِ )) القصص (34)

(( ولو شئنا لآتينا كلّ نفسٍ هُداها  ولكن حقّ القولُ مني لاملأن جَهَنّمَ مِنَ الجِنّة والناسِ أجمعينَ )) السجدة (13)

(( ياأيها النبيّ قل لأزواجك إن كنتُنَّ ترِدن الحياة الدنيا وزينتَها فتعالين أمتعكُنَّ وأسرِّحكنَّ سراحاً جميلاً * وإن كنتُنَّ ترِدن الله ورسوله والدار الآخرة فإنّ الله أعد للمحسِناِت منكنّ أجراً عظيماً )) الأحزاب (28 – 29)
(( ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهُنُّ من قبل أن تمسوهُنَّ فما لكم عليهِنّ من عدةٍ تعدوُّنَها فمتعوهُنَّ وسرحوهُنَّ سراحاً جميلاً )) الأحزاب (49)
((لا جُناح عليهنّ في آبائهنَّ ولا أبنائهنّ ولا إخوانهنَّ ولا أبناءِ إخوانهنّ ولا أبناء أخواتهنَّ ولا نسائهنَّ ولا ما ملكت أيمانُهنَّ واتقين الله، إن الله كان على كل ِ شيىءٍ شهيداً )) الأحزاب (55)
(( ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ذلك أدنى أن يُعرَفْنَ فلا يؤذَيْنَ وكان الله غفوراً رحيماً )) الأحزاب (59)
(( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجفون في المدينة لنُغرينَّك بهم ثم لايجاورونك فيها إلا قليلاً)) الأحزاب (60)
(( إنا عرضنا الأمانة على السمواتِ والأرضِ والجبال ِ فأبيْنَ أن يحملنَها وأشفقنَ منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً )) الأحزاب (72)

(( ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاءُ متشاكسون ورجلاً سَلَماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرُهُم لا يعلمُونَ)) الزمر(29)

(( قل أفغير اللهِ تأمُرونِّي أعبُدُ أيُها الجاهِلُونَ )) الزمر(64)
(( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرِفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكُم )) محمد (30)
 
((..لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رُؤُسكُم وَمُقصِّرينَ لاتخافون..)) الفتح (27)

(( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شىءٍ كل امرىءٍ بما كسب رهين)) الطور(21)

((هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم ٍ آن * فبأيّ آلاء ربكما تُكَذِبانِ * ولمن خاف مقام ربه جَنَّتانِ)) الرحمن (46)
(( متكئين على فرشٍ بطائنها من استبرق ٍ وجنى الجنتين دان * فبأيّ آلاء ربكما تُكَذِبانِ * فيهنَّ قاصرات الطرف لم يطمثهنّ إنسٌ قبلهم ولا جان * فبأيّ آلاء ربِكُما تُكَذِبانِ)) الرحمن (54 – 57 )

(( ن * والقلم وما يسطرون)) القلم (1 – 2 )

(( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بين أيدِيهنّ وأرجلهن ولا يعصينك في معروفٍ فبايِعهنّ واستغفر لهنّ الله إنّ الله غفورٌ رَّحيم)) الممتحنة(12)

((لا تحرّك به لسانك لتعجل بهِ * إنّ عَلَينا جمعه وقُرآنهُ* فإذا قرأناه فاتبع قرءانَهُ * ثمّ إنّ علينا بيانَهُ)) القيامة(15 – 16)

(( كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية * ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئه* فليدع ناديه * سندع الزبَانيه)) العلق (15 – 18)
(( كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لتروُنَّ الجحيم * ثم لترونّها عينَ اليقين * ثم لتسألُنَّ يومئذٍ عَنِ النَّعيمِ)) التكاثر (3 – 8)

(( والعاديات ضبحاً * فالموريات قدحاً * فالمُغيرات صبحاً * فأثرن به نقعاً * فوسطنَ بهِ جمعاً * إنّ الإنسان لِرَبِه لكنُود)) العاديات (1 – 6)

(( والتين والزيتون* وطور سنينَ* وَهَذَا البلد الأمين* لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم* ثم رددناهُ أسفل سافِلِينَ* إلا الذين آمنوا وعمِلوا الصَّالحاتِ فلهم أجرٌ غيرُ ممنُونٍ* فما يُكذِّبُك بعدُ بالدين* أليس اللهُ بأحكمِ الحاكمينَ)) التين (1- 8)

ونحن نضرب بهذه الآيات مثلاً رغم ثقتنا من مثولها في عقل وقلب القارىء الكريم، ونحاول تقريبه، ودفعه دفعاً جميلاً إلى مكامن النون، ليشاركنا تجلياتها.
وأجلُ كلمةٍ هي (( كُنْ )) من منشىء الكون المنزَّه المؤمنُ المهيمنُ.
ولله علم ما كان، يكون، وسيكون.
وأجمل الأقوال ما اقترن بالأفعال، ومعظم أفعال الناس مقرونة بالنون. ولدينا في نبي الله إبراهيم خير مثال حين دعا إلى (( اجتناب الاصنام)): (( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام)).
وأنت تنوي والنية محلها القلب، والقلب هو الجنان. وتمنّي النفس ولكن ما نيل المطالب بالتمني. وتزن الأمر بعقلك والعقول هي ((النهى)) فهي تنهى عن فعل ما لا يجوز ولا يليق ، فتنهى عن المنكر والبغي. واليمانون لا يزالون ينفون بالنهي فيقولون (( ناهي)).
وأنت تنهض من النوم ومن المكان لتسعى في مناكبها، وكل فعلٍ لك إن أردت النجاة والنجاح يسبقه تنبهٌ ونباهة وأناة، وإلا ندمت ندامة الكسعيّ، والفرزدق حين غدت مطلقة نوار.
وأحيانا نطلب الغفلة لا التنبه لغيرنا. فالشاعر ودّ لو أن المليحة لم تنتبه عندما سقط النصيف، فتناولته بالبنان، واتقته باليدِ.
وما كل نابه نائل مجداً (( كسنمار))، فما كل جزاء من جنس العمل.
وأنت تبني وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم.
ومن الأفعال العظام الدوران والجريان. وليس الإنسان وحده الذي يشنُّ، فكذلك تفعل المزن. واذا ما شنّ هتانٌ غارةً اهتزت وربت وأنبتت. والنبات كالبنات والنساء، والأرض كالمرأة كلاهما منجبٌ، وما كل مُنْجَبٍ نجيب.
وعلى ذكر النساء هنا هذا الشاهد الجميل لابن حزم الأندلسي للنساء، ولنونهنّ: " ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهنّ ما لا يكاد يعلمه غيري. لأني ربيت في حجورهنّ، ونشأت بين أيديهنّ، ولم أعرف غيرهنّ.
ولا جالست الرجال إلا وأنا في حدّ الشباب وحين تبقّل وجهي وهن علمنني القرآن، وروينني كثيراً من الأشعار، ودرّبنني في الخط، ولم يكن وكدي وإعمال ذهني مذْ أول فهمي وأنا في سنّ الطفولة جداً إلا تعرّف أسبابهنّ، والبحث عن أخبارهنّ، وتحصيل ذلك. وأنا لا أنسى شيئاً مما أراه منهنّ." (1)

(1) طوق الحمامة لابن حزم. منشورات دار مكتبة الحياة. بيروت1975م.
(2) قد يكون تمازج النون مع التونين هو المعتمد في بعض الشواهد التي لا تبدو فيها النون كثيراً، والمراد التناغم النوني.