من الذي قال إن التخابر والاستخبار لعبة؟! من الذي قال إنه فن صياغة الكذب؟! أعتقد أنه هو الذي قال إن الإعلام كذبة كبرى.
ومع ذلك سأفتح هذا الصندوق السحري فمشاهدتك: رغم ما فيها من ألمٍ، وإحساس بالحيف والظلم والجور، تشكل متعة معرفية كبرى، توازي قراءة مئات الكتب حول ساستك ومنظريك ومؤرخيك. شاشتك الفضية يا سيدتي تمنحني ذهب الرؤية الخارقة. ونِعَم النهل من ينابيع المعرفة الحرّة الصافية. تلك القادرة على إزاحة الأقنعة وقراءة ما بين السطور وكشف المستور وإشاعة المسكوت عنه ومعرفة الوجه الآخر لحضارة الانزلاق السريع. وشاشتكِ أهدتني معاجم جديدة لديمقراطية الكلام. فمعك تعلمت أن حرب التحرير يقودها المحتل وأن المقاومة تعني الإرهاب وأن المقاومين على أرضهم هم الأعداء وأن العنف والإرهاب مسميات للإسلام. وأن القتل عبر جيش نظامي مزود بكل أسلحة التدمير والدمار الشامل لمحتل، وعمليات الاغتيال والتصفيات الممنوعة، وحصار المدن والأبرياء من جهة، والمقاومة من أناس عزّل إلا من الإيمان من جهة أخرى هو عنف وعنف مضاد.
عبرك عرفت معنى إعادة الإعمار والتي تعني أن تدمّر ما بنته الحضارات، لتعيد بناءه وتأخذ أجراً على الهدم والبناء. ومعك تعلمت معنى النفط مقابل الغذاء. وهو أن تحرق الأرض، وتسرق النفط ثم توزع على الناس أكياس الدقيق.
ومعك تعلمت حرفيـّة الإعلام فإذا ما قـُتِل المئات بل الآلاف من الأبرياء فعليك ب " أمانبور "* تتجول مع الجنود الذين يوزّعون بسعادة المانِحِ الدببةَ، والألعاب الملونة على الأطفال الفرحين بهدايا المحتلْ... وذلك بالفعل ما ينقص أطفالاً لا دخل لآبائهم الذين قُتلوا أو سجنوا أو سرّحوا !! وإذا ما قُصفت القرى بقنابل ما فوق الطن، فعليك بصورة أفغاني يفتح علبة غذاءِ أمريكية هطلت عليه من السماء.
أيتها المعلمة القديرة لقد علمتني ما هو الفرق بين الملائكة والشياطين والخير والشر محاور الشر والخير ولن أكتب عن الشر والشياطين لكي لا يفزع أطفالك الآمنين ولكنني سأجمع لهم بوش وبلير وباول وسترو ورامسفيلد وهون وتشيني وولف ويتز وآرميتاج وتينِت سأجمع لهم ملائكة الخير ليغنوا لهم بل ليمطروهم بأغاني المحبة والسلام والديمقراطية وإذا ما طربوا لها وغفوا على أنغامها الحالمة قومي بتكرار بثها على أطفال آسيا وأفريقيا، على أطفال العالم المتعطشين لمضاهاة الحلم الأمريكي !! بقي أن أقول أنني قبلك.. يا لعمرٍ مضى هدراً كنت أجهل أنني مواطن من الشرق الأوسط وأن وطني العربي هو المعني بالشرق الأوسط إلى أن تلطفت علي فازددتُ طولاً لأنني فهمت أخيراً أنني مواطن من الشرق الأوسط الكبير فيا له من شعور بالعظمة ويا له من شعور مفعم بالأمل حين عرفتُ أنني سأكون محل عناية أمريكية تعلمني الديمقراطية وتفتح لي أبواب الإعلام الحرّ وتجعلني أشبه البيض من الغرب أستطيع أن أعبر عن ما في رأسي الفخور بقـَصة المارينز جالساً أمام الشاشة ببنطالي الواسع وقميصي الضيق بلا أكمام والذي لا أستطيع الكتابة عليه للأسف ( وُلد في أمريكا) ولكنني مع ذلك سأكتب مفتخراً " صنع في أمريكا "** وعلى ساعدي وشمان أحدهما لنسر أمريكي أصلع والآخر لطائرة الشبح ستيلث وفي يدي قبعة عليها اسم أحد أشهر أنديتك للسلة. والآن وقد حان وقت نومي على حلمك الأمريكي الذي يغزو خلاياي. عليَّ أن أغلق الجهاز فقط اسمحي لي قبل ذلك أن أقطف لك أنغاماً من أغنية بليك2: " الحماقة متاهة لا تنتهي تعقـّد دروبَها جذورٌ مشتبكة. ما أكثر من ضلوا هناك يتعثرون طوال الليل بعظام الموتى ويشعرون أنهم لا يعرفون غير الضنى: يريدون هداية الآخرين وهم في عوزٍ إلى من يهديهم "***
______________________________________________ * أمانبور: مراسلة قبيحة شكلاً ومضموناً ل CNN ** أغنية أمريكية شهيرة *** ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤة من قصيدة: صوت المنشد العجوز للشاعر وليام بليك.