أعجبني مقال الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي (استلاب) في زاويته مساقات، في المجلة الثقافية لصحيفة الجزيرة ع 256 بتاريخ 14 شوال 1429، وهو يعاين فيه بحرقة قلبٍ، جروحاً غائرة تنهش لغتنا وهويتنا.
ويؤكد الفيفي في ختام مقاله على أن (اللغة موقف، اجتماعي ثقافي حضاري، وليست محض حروف وكلمات)، بعد أن أرجع في البدء أسباب استفحال الاستلاب اللغوي إلى: (أنها قد هانت لدينا أمور كثيرة، فنحن في الواقع لم نعد نلحظ مفارقات الاستلاب اللغوي والحضاري الذي نعيش فيه، من أصغر الأشياء إلى أكبرها، لأن المزاج العام أصبح شبه مغترب عن لغته وانتمائه وشخصيته) و (لقد تبلورت هناك تربية اجتماعية على استساغة ما كان غير مستساغ، وتطبيع ما كان غير طبيعي، والتسليم المتبلد بما كان من قبل محلّ التفات ونقد وتساؤل).
ويرى الفيفي أنه (ما عاد مستبعداً إذاً - والحالة هذه - أن ينادى غداً باستبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي، كي نتخفف على الأقل من هذا الازدواج المرهق والمكلف! إلى جانب ذرائع أخرى يجب سدّ بابها، كتحديث الثقافة العربية، والتمهيد لخطط الإصلاح في المنطقة، ولكي ندخل جميعاً بانسجام تام في عالم العولمة، ومن أجل تحقيق تفاهم أمثل وأرضية مشتركة بين اللغة العربية وغيرها من اللغات. ولا ننسى في هذا المقام: مشروع ( الشرق الأوسط الكبير) ومستلزماته، وفي طليعتها المستلزمات اللغوية والثقافية، وهلمّ جرّا!)
أما حول التغريب والثقافة فيخلص إلى: (أن القائلين بنشر اللغات الأجنبية وبتعليمها في مراحل مبكرة - وبحجج مصلحية قاصرة يرونها مقنعة من وجهة نظرهم - لا يختلفون عن القائلين بأن العاميات تراث شعبي ثمين جدا، بل أثمن من التراث العربي، بلغ من الأهمية شأواً عظيماً يستأهل كل هذه الضوضاء من الإعلام والتشجيع والجوائز والمهرجانات والإنفاق).
والخطير هنا أنه: (لا يمكن إغفال أن عدم الإحساس بأهمية هذه القضايا إنما ينتج عن فقدان إحساس بالهوية أصلاً).
ودون الخوض هنا في تفصيل موضوعي اللغة الانجليزية، والأدب الشعبي، فهذا بالضبط ما حاولنا لفت النظر إليه طوال سنوات، والتشديد حتى انقطاع الأوردة على مسألة الهوية واللغة، وأهمية وعي المبدعين والنقاد والأكاديميين والإعلاميين بالهجوم المنظم على كل ما هو قيمة وأساس وثبات في عالمنا العربي والإسلامي، وليس الشرق أوسطي كما يراد له من ذوبان وطمس.
وكان يؤلمنا ولا زال إحالة كل صوت منافح للحق، وفاضح للتزوير إلى نظرية المؤامرة، وتضخيم الأمور، والخوف من التغيير، والعداء للغير.. إلى آخر نظريات المارينز العربي، والليبراليين الجدد المتناغمين بشكل أو آخر مع أصوات المخططين والمنفذين من المحافظين الجدد في الغرب المحارب، المهيئين الأجواء والثغور الإعلامية والثقافية لضرب الأمة: هويتها ولغتها.
أوليس من المفارقات المضحكة أن يلتقي هنا الليبرالي العربي الجديد مع المحافظ اليهودي الصهيوني وأدواته؟!
ولا شك بأن تتفيه الثقافة، والقضايا الكبيرة، وإشغال الرأي العام بسقط المتاع، وبالزبد والزيف، وبالصرعات، والحث على استسهال الكتابة والإبداع، والاستخفاف بالأسس، والسخرية من الموروث العربي، كل ذلك، وغيره كثير، يخدم عن: علم وقصد، أو غفلة وجهل، مشاريع التخريب لا الإصلاح، والشرق الأوسط الإسرائيلي كبيراً كان أم صغيراً، والعولمة الأمريكية بصبغتها الاحتلالية التجزيئية والتقويضية الهادمة، لا التكاملية البانية.
وعلى نقادنا ومبدعينا والقائمين على إعلامنا وثقافتنا الاشتعال حرقة وغيرة كما يفعل الفيفي وغيره من الحريصين على هويتهم ولغتهم، ليس لدرء السوء، والدفاع عن الثغور، وفضح المسكوت عنه والمستور فحسب، ولكن للخروج بأشجار إبداع ونقد وإعلام وثقافة ضاربة في الجذور، مثمرة بالجديد الفريد المفيد.
أعراف
مقالات زاوية أعراف في صحيفة الجزيرة