هيفاء الجبري تعيدُ الشعرَ إلى «مرات»
تداعى لهُ سائرُ القلب! (1)
«وروحيَ تكرارٌ لما يكتبُ الهوى
لعمرُكَ إنّي ضقتُ من كثرةِ النسخِ»*
ليسَ بغريبٍ أنَّ شعراً جميلاً ومختلفاً كهذا يلفت أعيننا، ويأسرنا، ويحرضنا على الكتابةِ رغبةً في تكريس الجمالِ وإشاعته، وقد أحسن النادي الأدبي بالرياض صنعاً بالتفاتةِ الأولى، ونشرهِ ديوان «تداعى لهُ سائرُ القلب» للشاعرة القادمة بتؤدة وجمال المبدعة هيفاء الجبري في سلسلة الكتاب الأول لهذا العام 2015، فجعل للكتاب الأول قيمة عالية مختلفة وكأنه الكتاب الناضج لمبدعٍ مجرّبٍ متمرّس، وجعل من السلسلة سنّةً حميدةً لدعم المبدعين في المملكة في خطواتهم الأولى.
يظهر لنا من العنوان مروراً بالإهداء اللطيف الظريف: ( إلى ذاتي .. السارحةِ في الوجود.. ابتغاءَ صوتٍ غير ذي أجل.. سمّوهُ قديما: «شعرا»)، إلى قصائد الديوان الجميلة والجديدة الخاصة بروحها، أن الشاعرة وثيقة الحبِّ والصلةِ بالشعر واللغة، وأنها تنهلُ من مخزونٍ تراثيٍّ ولغويٍّ ثريٍّ كما تشاء، ضمن نظرةٍ وذائقةٍ خاصةٍ وحديثة، لتقدّم لنا شعراً صافياً كما في هذين البيتين من قصيدتها الدافئة الحالية رغم غربتها « غربة»:
«لم أرَ الليلَ يشْرحُني للوُجُودِ
إذِ النَّجمُ كانَ بهِ مُبهَما
ضَلَّ بي النَّجْمُ حين تَعَكَّزتُهُ
أكذا بالنُّجومِ يُصابُ العمى؟!»
والديوان يبرهن لنا على أن الشعر الحديث ليس شكلاً، ولا لعبة لغوية فارغة، وأن الشعر الجيد قديمه وحديثه، بعموده وتفعيلته، هو روحٌ وبوحٌ وغناء، منذ شاعرنا العربي القديم في صحاريها، وحتى أحدث شاعر في حاضرتها وجامعاتها وأرصفتها ومقاهيها.
وأن الحبّ هو الحبّ، والهوى هو الهوى، والأوطان والحمى، هي الأوطان والحمى:
يقول ابن الدمينة الخثعمي، وهو شاعر نجديٌّ من العصر الأموي:
وقد زعموا أنَّ المحبَّ إذا دنا
يملُّ، وأنَّ البعدَ يَشفي من الوجدِ
بكلٍّ تداوينا.. فلم يُشفَ ما بنا
على أنّ قربَ الدارِ خيرٌ من البعدِ
لكن الهموم في تفاصيلها الصغيرة وفي النظرة إليها، ومصادر الدهشة قد تختلف، تقول هيفاء في وقفتها الجميلة هذه:
«وحينَ لمستُ الحرفَ ألفيتُ متعَباً
يكادُ من الإعياءِ يهوي من السّطرِ»
فما الذي يجمع بينهما رغم البعد عدا كونهما من نفس البيئة الحاضنة نجد؟
والشاعرة من « مرات» وهي من بلدات الوشم التي اختلف حول نسبتها، فذكر أنّ مرات مشتقة من اسم امرئ القيس الكندي، وقيل إنّ القبر الموجود فيها ليس بقبره، بل هي مشتقة من اسم امرئ القيس التميمي، وأياً كانت الرواية الأصح فإنّ هيفاء تعيد الشعر إلى أرض أجدادها الشعراء.
ونعود فنقول إن الذي يجمع بينها وبين ابن الدمينة ببساطة:
الروح، روح الشعر، وشفافيتها وعذوبتها.
والتعب، تعب الحب والنأي لدى ابن الدمينة - ولا يعنينا هنا إن نسبت قصيدة ألا يا صبا نجدٍ التي منها البيتين لمجنون ليلى قيس بن الملوّح فكلاهما محبٌّ نجديٌّ- وتعب الشعر والكتابة والتأمل لدى هيفاء.
ونحن نغني حنيناً ووجداً ونطرب مع القديم ويشبهنا صدر بيته الثاني فبكلٍّ تداوينا في أوطاننا، ونقف دهشةً مع الجديد، نحن أصحاب وأحباب الحروف واللغة والشعر، فنغني مع شاعرتنا ونطربُ إعجابا.
تحدق هيفاء بعينيها وعقلها في تفاصيل الأشياء مهما كانت صغيرة لتصل إلى أسرار الروح والكون، مشغولةً بموضوعين رئيسيين هما الكتابة والشعر من جهة، والحب من جهة أخرى، وهما ضفتا نهرٍ، والنهر ذاتها، والماء ولضوء والطبيعة روحها، ولذلك تقلقها الصحراء والجفاف، والوقت، والنور والضوء.
هي ثنائية الحياة والموت في النهاية إذاً:
ولو تأملنا قصيدتها البديعة « كحمامة» حيث تغادر روحها إلى حمامة:
«غادَرَتْني إلى الحَمَامَةِ رُوحي
وافتَرَقْنا كأيَّما حُزْنينِ»
لوجدنا شيئا من هذا، أو كل هذا الذي ذكرنا:
«غايةُ الوقْتِ أن نطيرَ سويًّا
كم من الوقتِ فرَّقَ الطائرينِ
لستُ وَحْدي أضِيعُ في النُّور لكنْ
بِتُّ والنُّورُ في المدى ضَائعَينِ
تقْتَفِيني من الحِكَاياتِ شَمْسٌ
كنتُ أولى بها من المشْرِقَينِ
وأنا والضِّياءُ بِضْعةُ حُبِّ
حَبَسَتْهُ الطيورُ في غَيمتَينِ
إنّها الروحُ غَادَرَتْني ولكنْ
لم تُغادِرْ صَحائِفَ العَاشقَينِ
فأنا أسْمَعُ الحَمَامةَ دوماً
تَتَغَنَّى بسِيرةِ القلبَينِ»
وهو ما نجده جلياً في قصيدة « الحبّ والصمت والصحراء»:
«ظُلْمَتي فـِكْرَةٌ مـِـن الأَضْـواءِ
وضِيائي شيءٌ من الظَّلـماءِ
يَقِفُ الصَّمْتُ في رِدَائي ويَمشِي
في حذائي ويَحْتَسي من إنَائي
أَجِدُ العمرَ في كِـتابٍ قَديـمٍ
رَبْـوهُ مُزمِنٌ من الغَبْـراءِ»
ولكن أ ليس هذا هو موضوع الشعر قديماً وحديثاً؟
الحب والسعادة والحياة والخلود، والروح وغربة الروح! فما الجديدُ لدى هيفاء هنا؟
الجديدُ هو التناول الفريدُ لهذه المواضيع والمضامين، والحرقةُ التي ينضج عليها الشعر فيكون دافئاً كهذا:
«لم يكُنْ حُلُمًا فوقَ عرشِ السَّما
بلْ على الأرضِ كان الّلقى حُلُما
كنتُ أمشي وخَلفي السِّنينُ تَسيرُ
فلمّا وقَعتُ مَضَتْ قُدُما»
والديوان مكتنزٌ بمثل هذا الجمال الفريد الذي تحتار أمامه أي جواهره تختار،فنحن أمام ظاهرةٍ شعريةٍ جديدة، وموهبةٍ فذة لها فلسفتها الخاصة في الشعر، نشعر بتميزها من أول عملٍ، ومن أول الخطوات، وهي خطواتُ لم تتعثرْ ولم تقعْ شاعرتها أبداً في نظرنا، بل ستمضي قدُما لتحتلَّ مكانتَها التي تليق بها بإذن الله.
* كلّ الأبيات المقوسة للشاعرة هيفاء الجبري