شاعر العرب.. يعزف منفرداً على بحر العرب

قراءة :دينا أديب الشهوان

 

إن الكتابة بالدم لا بالسواد الذليل ..

هكذا رسم الشاعر محمد جبر الحربي غلاف ديوانه المعنون بـ "زمان العرب" حيث عزف تنويعاً منفرداً على بحر العرب بالماء والنور والنار والدم والبطولة والبسالة والشهادة، كان الحربي تارة محاوراً وتارة أخرى محوراً. وكل ما يحتويه زمان العرب من بدء تكوين هوية حضارتنا العربية إلى يومنا هذا.

ثمة تفاصيل تحيط بنا لكننا لا نحاول اكتشافها فكيف بمن اقترب منها وحاورها !!هكذا كان الحربي في ديوانه الجديد "زمان العرب" الذي صدر عن أعراف الرياض للنشر والإنتاج حيث احتوى على قصيدة واحدة فقط بنفس عنوان الديوان، صمم الديوان على هيئة كراس تصميماً فنياً جميلا في 32 صفحة، تميز الديوان بنمط إخراج رائع ونوعية ورق مصقول وفاخر، اتخذ شكل المخطوطة على ورق بردى جاءت إلينا من الزمن الماضي لتذكرنا بزماننا.

يعتبر ديوان زمان العرب الأول من نوعه في عالم الشعر والأدب في المنطقة العربية، وذلك لتفرده الأوحد في المملكة العربية السعودية بقصيدة واحدة، وهذا يفسر جرأة الشاعر في توثيق قصيدته في ديوان، وهو دلالة واضحة على ثقة الشاعر بجوهر كتابته، واحترامه الكبير لقرائه حيث بدأت لهفة الحقيقة تظهر في عيون كل من استمع للقصيدة وقت ظهورها في قلب الشاعر.

يأتي سفر زمان العرب مختصراً لأزمان عديدة، حيث كانت القصيدة تختصر سيرة أوطان ومسيرة شاعر يبحث في خلده عن حقيقة غائبة في زمن العرب.

عزف شاعر العرب قصيدته منفرداً على بحر العرب وكأنها سيمفونية عربية تحيك قصة صولات وجولات العروبة المنسية على قارعة التاريخ، لكأنه يذكرنا بقيمة المخطوطات المنقوشة بدماء البواسل وبالتاريخ العربي الحافل بالحضارة والتراث .

عمد الحربي في قصيدته على حوار التفاصيل التي من الممكن أن تكون بعيدة عن مخيلة أي شاعر، حيث كانت المحاكاة هي النسيج المبني بين السطور، طلع الشاعر من عباءة الأنا ليقف بنا وسط الكلام؛ مستجمعاً سيرته الشعرية في تلك القصيدة،  ومؤكدا على موقفه بأن زمان العرب لم ولن ينتهي أبداً.

في ديوان زمان العرب يبرهن الحربي مرة أخرى على أن الشعر بحر لانهاية له وأن مسيرة الشاعر لاتنطفئ أبداً بل تبقى الشرارة مشتعلة دائما حتى لو بدا عليها الانخفات قليلاً.

المغني وهي صفة حقيقية ارتبطت بالشاعر محمد جبر الحربي من خلال قصيدته الشهيرة "المغني" ولكن كيف غني الحربي زمان العرب، وعلى أي البحور حاول أن يستجمع كلماته، وكيف كان صوته بين حناياها، وكيف حاور أدق التفاصيل، كيف قال ما لم يقله أحد!! هل اختبأ الشاعر وراء انعطافات الكلام أم أنه صرح بما في قلبه بلسان المتكلم؟!!

كانت الصورة الشعرية في بيان الشاعر أقرب للحقيقة وشعره هنا أدق مما نراه على الشاشات كأخبار يومية أو نسمعه عبر الأثير بالموجات الصوتية هو أقرب منا..ومن أي صوت آخر وظهر هذا جلياً معبراً عن موقفه في قوله:

 على الأرضِ منه السلامْ

وللعرْبِ: طيّبِهم والتقيُّ، وفيهم رسالتُه، والنبيُّ،  وأعلى صروحِ البيان.

 فأما الحروبُ فمنْ صنعِ فرعون هذا الزمان وهامانِهِ:

 يرفع الصرحَ ملتبساَ بالخديعةِ، مستكبراً بالحشود، مستنفراً فتنة المائلين لهدمِ الجنان.

وأما البيانُ فهذا بياني لكمْ فاحفظوه

 وكونوا به الرمحَ والصولجان.

وكونوا الخلائف في جنةِ الله، أرضِ الرسالاتِ،

مهد الحضاراتِ، مفروشةً بالغمامِ، ومعروشةً بالعنبْ.

وكونوا الثوابتَ والعادياتِ.

 أعدّوا لهم ما استطعتم من الكبرياء مسوّمةً بالجلال وممهورةً بالغضبْ

ولا تهلكوا، وتوخوْا بها ما أمرتم به من عتادٍ

ومن زادِ عزتكم من أيادٍ، ومن صافنات العنادْ

وفي صوت آخر للشاعر حيث تبدو كلماته مَفصلاً ومتصلاً أكثر بعروبته وفي نفس الوقت متمنعاً عن كل ذريعة تحاول أن تمس زمانه الذي يصر عليه حين قال:

قلت هذي هي العربية

تسعي إليّ وتشكو

فقبّلت مهجتها،  وأخذت برفقٍ يديها،

وأجلستها فوق روحي

فسالت جروحي

وفاض المدادُ بأنبل ما يصطفيه الفؤادْ.

 ولكن أي كلام سيقال بعد كل هذه المقاطع المتجانسة التي تفسر حال الشاعر فكلما نعود إلى  القصيدة، نرى كيف استرسل الشاعر بوصف الحالة التي نعيشها كلما عدنا إلى نقطة البدء تجسد لنا الموقف أكثر بقوله:

لم أقف خائباً كالإوز

فسجل هنا مرةً تلو أخرى

بأني أنا اليعربي الأبي على أمةٍ

سوف أبقى أدافع عن ملةِ العدلِ

أنشد قافية الليل مبصرة ً كالنهارِ

وفي مكامن أخرى يبدأ الشاعر بمحاورة تفاصيل لم نلتفت إليها تظهر شاعرية الحربي، ومدى تمسكه بتفاصيل أرضه، وكيف يبدأ بمحاكاة الأشياء صغيرة ربما لا نعيها في واقعنا لكنه انتبه للوعي معها، وبها حيث سرد لنا ما قالته تلك التفاصيل بشكل مبسط وكان يلون لنا الحياة كما تحلو لنا في قوله:

يقول لي الغصن هذا كيان العربْ

وإن جيشوا كل ما حولهم: أرضهم والسماءَ

وجاست فساداً بها خسة الغربِ

عم الخرابُ

وصاح الغرابُ

وأضحى الأمين الشريف العفيف بمحرابها من كذبْ

ومن خطابه للغصن لقوله في الوردة الشاهدة على هذا الزمن:

 

 تقولُ لي الوردَةُ الآنَ هذا زمانُ العرَبْ

وإن حطّ من حطّ

أو غار من غار

فاكتب هنا بالدمِ العربيّ وماءِ الذهبْ

وفي أول السطرِ، في الصدرِ

هذا زمان العرب

ووالله والله إن الزمان على رغم بووشً وتابعه لزمانُ العربْ.

 

وفي مكامن أخرى ينتقل بنا الشاعر من النشيد حتى الإنشاد، لتصبح قصيدة زمان العرب متفردة بذاتها كما قدمها لنا في ديوانه كاستعادة لسيرته الشعرية وكأننا نكتشف من جديد شعر شاعر لم يتوقف عن الشعر بل استطاع أن يرسم اللغة مرة أخرى في لوحة ليست سريالية بل طبيعية حد الحقيقة بكل تفاصيلها ويظهر مدى اعتزازه بموقفه، ومباركته للحجر الصغير ولبحر لغته العربية الأبيض ولبيانه ولكيانه المتجسد في كيان أمته في قوله :

تقولُ ليَ الأرضُ إنَ البلادَ بلادُ العرَبْ

وفيهم بدايتها بالخلافةِ حتى تعود كما شاء

ورثها للعربْ.

ألا سنة الله قد كتبت

شاءَ من شاءَ

صدقها من تسامى

وكذبها من كذبْ.

يسر لي الحجرُ الآن مستبشراً بالذي خلفة من يهودٍ

وما فوقه من أسود العرب.

فبوركت يا حجراً لا ينامُ

وبوركت يا لغتي العربيةَ

هذا بياني

وهذا كياني

وهذا زماني

زمان العربْ