الخاء : الخيرُ والخلودُ والسخاء (3)

 

وبعيداً عن القتل وتفكيك الأوطان وتقسيمها إلى دويلات مسخ، وتسميم العقول وتخريبها، بعيداً عن الحروب، والخنادق التي تُرسم خططها في الفنادق، والبخل وخزيه، ولتخفيف الأمر على قلبكِ الرقيق، أورد هذه الأبيات المختارة ليزيد بن معاوية، وهي وإن كانت في سياق الحب والغزل، وحرفنا الخاء، فما تزال تفوح منها رائحة الدم، ولكنه دم العاشق الشاعر وخياله المجنح، لا دماء القتل التتريّ اليوم:

 

خُذوا بِدَمِي ذَات الوشَـاحِ، فإنَّنِـي

رَأَيْتُ بِعيْنِـي فِـي أَنَامِلَـهَا دَمِـي

وَعَيْشِكَ مَا هَـذَا خِضَابـاً عَرَفْتُـهُ

فَلا تَكُ بالبُهْـتانِ وَالـزُّورِ مُتْهِمِـي

بَكَيْتُ دَماً يَـوْمَ النَّـوَى فَمَسَحْتُـهُ

بِكَفِّي، وهَذَا الأَثْـرُ مِنْ ذَلكَ الـدَّمِ

ولَوْ قَبْلَ مَبْكَاهَـا بَكَيـتُ صَبَابـةً

بِسُعْدى شَفَيْتُ النَّفْس قَبُـلَ التَّنَـدُّمِ

ولَكنْ بَكَتْ قَبْلي ، فَهَيَّجَ لِي البُكَـا

بُكَاهَا، فَكَـانَ الفَضْـلُ للمُتَقَـدِّمِ

خَفاجِيَّةُ الأَلْحَاظِ مَهْضُومَـةُ الحَشَـا

هِـلالِيَّـةُ العَيْنَيـنِ طَائِيَّـة الفَـمِ

وإذا كانت الجملةُ الاسميّةُ من مبتدأ وخبر .. فانا أقول:

الحبّ مبتدأ الندى

والموتُ فيكِ هو الخبَرْ.

وما دمنا في ذكر الحب والجمال، فما أجمل هذا الحسن المركّب المضاف لابن ياقوت:

لهُ خالٌ على صفحاتِ خدٍّ

كنقطةِ عنبرٍ في صحنِ مرمرْ.

والخاء في أرفع الأسماء، أم المؤمنين، وسيدة النبل والكرم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وخالد بن الوليد سيف الله المسلول، وفي الأعداد خمسة، وفي المكان خيبر التي نسينا تاريخها ولا ينساها اليهود، والخاء في السموات والأرض خزائن الخالق البارئ الخبير المقدّم المؤخّر الأول الآخِر الرحمن الرحيم.

أما خديجة الحاضرة فقد خاطبتها خلال حربٍ وعدوان جائر على أمتنا:

يا خديجةُ خبّري عنِي التلفّتَ والندى

أني أميرٌ ما أسِرتُ إذا أسِرْت من العدا

رِدْءاً أردتُ فكان مستنداً رمـاديَّ الرّدى

المـوتُ في عينيه لم أبصرْهُ كنـتُ مُرَمَّدا

والموتُ في أعطافِهِ ولبسْتُه يا للرِّدا

أنّي الخُذِلتُ وكنت وحدي أبْلجاً ومهنّدا

ما خنتُ:

كفّنت الشهيدَ،

وناذراً للموتِ.. مبتدِراً غدا

أفشيت سِرَّاً!!

لم أخنْ.

خانوا ولم يحضرْ أحدْ.

وقد لاحظت، وبشكلٍ عام، ولست بالمتخصص في علوم اللغة، أن حضور الخاء كان واضحاً ومميزاً في شعر المتقدمين خاصة في الجاهلية وصدر الإسلام، لكنه خفت كثيراً لدى المتأخرين، ربما بفعل الحضارة والمدنية والاستقرار، حتى اليوم، فنحن لم نعد نمرّ على مثل هذا الشعر، والمفردات التي استخدمها الصمّةُ القشيري، في تائيته الرائعة رغم رقة شعره، هذا وهو المتوفي عام 95 هـ، فكيف بحضور الخاء لدى أصحاب المعلقات!!:

ولا وجد بكرٍ حرةٍ أرحبيةٍ

ترود حوالي طفلها قد أتمّتِ

أتيح لها فيما تروح وتغتدي

خشارم منه رعبها فاشمعلّتِ

وجاءت مفجّاةً ترى فـرْثَ طفلِها

بسرحانةٍ أظفارها قـد تدمّتِ

تهزّ من الوجد الخصيل وراعها

صويتٌ خفيٌّ خلفها فاقشعرّتِ

فما وجدت من طفلها غير شلوه

شماطيطَ لم تقنعْ بها حيثُ شمّتِ

ولا وجـد أعرابية قذفت بها

صروف النوى من حيث لم تكُ ظنّتِ

إذا ذكرت ماءَ العظاةِ وطيبَه

وبردَ الحصى من أرضِ نجدٍ أرنّتِ

بأكبـر مـن وجدٍ بطيا وجدته

غـداةَ ارتحلنا غـدوةً واطمأنتِ

لها فخذا بختيّةٍ بخترية

وساقٌ إذا قامتْ عليهـا اتمهلتِ

وخصران دقا في اعتدالٍ ومتنةٍ

كمتنة مصقول مـن الهندِ سُلّتِ

واعلمي يا رعاك الله أن حديثي عن الحب هنا بعد الحرب، ليس من باب حسن التخلص من الخوض في الواقع المرير، والدخول في جدل وخصامٍ مع نخب الربيع الواهمة بالجنة التي اختلقتها على الأرض، وهي في الجحيم، ولكنه ميلٌ إلى الشعر والتنويع والبديع، وخدمةً لأذواق الجميع، فعندما كانت للنبل الصدارة، كان سيد القوم خادمهم، وأنا اشرف بخدمة أهلي وثقافتي ولغتي وأوطاني.

أو لعلها الأفكار في اختلافها وائتلافها، وانهمارها وتكاثرها، واختلاطها، كما حصل لخويلد بن مرة، أبي خِراش الهذلي مع الظباء، في زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

تكاثرت الظباءُ على خِراشٍ

فما يدري خراشٌ ما يصيدُ!!

لكن ذلك المعنى إنْ توغّلتِ بعيد، فما يتكاثر اليوم فعلاً هو السواد والظلام، ظلام العقول، والخفافيش، والغربان التي تنقر أفئدة الأحباب والخلان، خلان وأحبة الأوطان، على مفارق الخديعة والخذلان، وعلى مصارع الخلاف والخلافة المزعومة. ولنا أن نتساءلَ، حتى يزولَ الخريف عن أوطاننا، مَا الذي جَعلَ كل اختلافٍ فينا، أو بيننا، يؤدي إلى خلاف عميق، وحروب صغيرة وكبيرة، ألي ست بدايات التعليم الذي عزز التفضيل وألغى التعدد، وألجم اللسان وزيّف الخطاب؟

ما كان لنا الخِيَرة، ولكننا في الختام، وكما دخلنا بالسلام، ونحنُ أهلُ السلامِ، نخرجُ من باب الحبّ والمعرفةِ والخيرِ هذا بالسلام.