البردّوني: السَّاحِرُ السَّاخِر!

عام 1971 كتب البردّوني قصيدته الشهيرة "أبوتمَّام وعروبة اليوم"، وهي في ديوانه "لعينيْ أمِّ بلقيس":

ماذا جَرَى.. يا أبا تمَّامَ تسألُنِي؟!

عفواً سأروِي.. ولا تسألْ.. وما السببُ؟!

اليومَ عادتْ علوجُ (الرومِ) فاتحةً

وموطنُ العربِ المسلوبِ والسَّلَبُ

ماذا ترى يا أبا تمامَ هلْ كذَبتْ

أحسابُنا؟ أو تناسَى عرقَهُ الذهبُ؟!

مضت الأوطان، والأزمان، ولكنني لم أنسكَ يا عبد الله!

فلقد حملتْ لي المدنُ العربية من صنعاء إلى جدة، فعمَّان، فبغداد، فمسقط، سلالاً من إبداع وحضور الأديب اليمني الكبير عبدالله البردّوني رحمه الله. الشاعر الفذ، والموسوعة المتنقلة، الدانية لا العصيَّة، الباسمة لا المتجهِّمة، الناضجة لا الفجَّة.

والواجهة الثقافية المميَّزة لليمن "السعيد"، والابن البار للأمَّة، واللغة الفخمة، والأدب الرفيع، والمفردات الفطِنة القويَّة اللاذعة الحلوة المرَّة.

كنت كلما جلست إليه ازددت طولا، وقد كان له إيقاعه الخاص، وحضوره الساحر الطاغي المميَّز والمحبَّب في كل عاصمة ومحفل.

فترى الأدباء من مختلف التيارات الأدبية والأجيال من حوله، وترى صدى قصائده وأسئلته الحارقة في عيون الناس ومهجهم، إذا ما ألقاها بطريقته العذبة.

لقد كان يملك الحضورَ تماماً، وبكل أحاسيسهم، بقصائده القويَّة الضاربة في تاريخ، وواقع، وتطلّعات العربيِّ أينما تقطّعت به الأمصار.

وكانت واحدة من محاسن شعره، تلك الأسئلة الجريئة، التي ميّزته عن بقيّة شعراء العمود الذين ركنوا للإجابات والقوالب الجاهزة، واستسهلوا الشعرَ فوقعوا في أسرِ النظم، ونزلوا من أعالي الشعر إلى قاعِ الكلامِ العاديِّ والمكرور:

لماذا المَقْطَفُ الدَّانِي

بعيدٌ عنْ يدِ العَانِي؟ِ!

لماذا الزَّهْرُ آنِيٌّ

وليسَ الشوْكُ بالآنِيْ؟

لماذا يقدرُ الأعتَى

ويَعْيَا المُرْهَفُ الحَانِي؟!

لقد ركب البردّوني الصعب فروَّضه إلى أن أصبحت قصائده لسان العرب في كل مكان مهما اختلفت شكال المطارات، والرايات، واللهجات.

وقد تفهَّم ذلك البعيد والقريب، لأنهُ المُحِبُّ وإنْ قسا:

وُلدتْ صنعاءُ بسبتمبرْ

كيْ تلقى الموت بنوفمبرْ

لكنْ كيْ تُولدَ ثانيةً

في مايو.. أوْ في أكتوبرْ

في أولِ كانون الثاني

أو في الثاني من ديسمبرْ

رغم الغثيان نحنُّ إلى

أوجاعِ الطلْق ولا نضجَرْ.

إنّك، وببساطة، لا يمكنُك إلاّ أنْ تُسحَرَ برجُلٍ سلاحهُ الإدهاش، وثروتهُ الحبُّ، أمَّا الفقرُ فلهُ أسرارُهُ:

يا مصطفى أيُّ سرٍّ

تحتَ القميصِ المَنتّفْ؟

أأنتَ أخصبُ قلباً

لأنَّ بيتكَ أعجَفْ؟

لقد كانت للبردوني صورته الخاصة، وصوته الخاص، وعناقيدَ من قصائدَ هي هناك في سلال النّدرة والوفرة والجمال، لا تشيخ ولا تفنى.

فهي قطوفٌ عاليةٌ دانيةٌ من وجعٍ وغربةٍ وحزنٍ ومرارةٍ وفقرٍ وسخريةٍ وبكاء.
وهي قطوف عافية وسعادة ووطنٍ وغنىً وغناءٍ ورضىً وإيمان.

هي التقاء الأضداد، وزهوّ الضاد، واختلاط أصوات النعيّ بصرخات الميلاد.

هي الأسئلة والرؤى.

لقد تجمّع العرب حول البردوني في حياته، وأجمعوا على فرادته، وحينما غادر العاجلة الفانية، شيَّعه الآلاف إلى المثوى الأخير، لكنه بقيَ في ضمير الملايين لصدقه مع وطنه وأمته، حين قاده عماه إلى الإبصار والتبصُّر المبكِّر في أحوالها وآمالها.

بينما قادت الآخرين نعمة البصر إلى ذواتهم، فأعمتهم عن أوطانهم، فظلّوا خارج التاريخ.. خارج الذاكرة.

لقد كانت للبردَّوني ذاكرة عجيبة، فعدا محفوظاته المبهرة كان يحفظ أصواتنا، ويميّزها، فيبتدرنا بالتحية حال إقبالنا عليه من العواصم البعيدة.

وكان يسأل عنّا بلهجتِه المحببة، ولكنته المميزة:

وكنا ولا نزال نعرفه ونحفظه ونفاخِر به ونستعيده قيمةً عربية خالصة، معرفتنا واستعادتنا للبنِّ، والهيل، والعسل، والجنى، وأنهار المعرفة الحرة الطليقة.. معرفتنا للأسئلة.. الأسئلة:

ترى هل ينمحي وضحِي

إذا أعلنتُ كتماني؟!

لماذا يغتدي طيري

وأثوي خلف حيطاني؟!

أأستبكيك يا مقهى

بقلبي عبر أحزاني؟!

لأنَّ مشاجباً أخرى

لبسن بطون أجفاني

وأنكى ما أعي أنِّي

أنوءُ بحملِ بنياني

 

رحمكَ الله.. حفظت أمتك فحفظتك.. فاحفظوا أوطانكم.