«أجدّفُ ليتني ما اشتقتُ يوماً

وليتك في دمي تجري بدوني»

حين أسمعني المذيع المبدع المحبّ عبد الله بن سنكر قصيدتها «تشابه» بصوتهِ المتفرد العذب، سألني: هيّا أخبرني لمن؟ قلت متردّداً أهي لشاعرنا الأستاذ عبدالله عبدالرحمن الزيد؟ لجودتها، ولمعرفتي بعلاقتهما الوثيقة؟ قال لا، ثم أضاء ليلتي بالشموع حين أخبرني أنها للشاعرة شقراء مدخلي. كم كنتُ مبتهجاً، وكم داهمتني الأسئلة تلك الليلة: ترى كم مبدع ومبدعة لدينا في هذا الوطن- القارّة، لا نعرفهم حق معرفتهم، وربما لا يعرفهم أهلهم، أو المشتغلون بالهمّ الثقافي؟ وهل نتحمّل نحن الخطأ، أم هم، أم تتحمل ذلك الجهات الثقافية والإعلامية؟ ثم ماذا يمكن أن نفعل لهم، كيف نخدمهم، وكيف تصل أصواتهم، ثم كيف نفاخر بهم كما نعتز بنخلنا، كما تفتخر الدول والشعوب بمبدعيها وعلمائها؟

فكم تعرفنا على بلدان وقضايا عبر شعراء وأدباء وعلماء، كما ارتبط العراق بالسيّاب والوردي، ولبنان بجبران وبشارة وإيليا وفيروز، واليمن بالبردوني، وداغستان بحمزتوف، وفلسطين بدرويش وإدوارد سعيد، وإسبانيا بلوركا، أو كما فتح لنا بابلو نيردا وماركيز أبواب أمريكا الجنوبية. ونحنُ وطنُ الشعر، وأهل الشعر مذ تعلق قلبُه بطفلةٍ عربيةٍ، وهبط عليه الليل كجلمود صخر، ووقف على الأطلال بسقط اللوى امرؤ القيس، وتفتح ذهن النقد بالشعر بعيني أعشى منفوحة. وبكى الناس صخراً مع الخنساء، واستطاب الناس الاختلاف مع الصعاليك.

وها هو وطن الشعر اليوم يزدهي ويتعطّر ببرعمٍ جديد، فهنا الوطنُ شقراء، وهنا شقراءُ الوطنِ المدخليّةُ وقد امتزجا دماً وشعراً دافئاً في تحفتها «تشابه»، القصيدة القريبةُ من الروح حتى يشعر المرء لشدةِ سلاستها وعذوبتها أنه يستطيعُ كتابة مثلها، ولكنه الشعر القريب البعيد، السهل الممتنع، الفرات الذي نشرب فنرتوي ونطرب، والضجيجُ من حولنا أجاج، هنا تشابهها المختلف:

تشابه:

نادوكَ من كلِّ الجهاتِ

وما دعاكَ سوى فمي

وتشرّبوا طراً هواكَ

كأنّما شربوا دمي

وطني وينثالُ الربيعُ

على ثراكَ فأرتمي

يا جنتي الخضراء يا..

وتضيقُ عنك معاجمي

من أين أغترفُ النشيدَ

وكلّ أرضِكَ زمزمي؟

بل كيف أنظمُها الحروف

وماسُ حبكَ منجمي؟

متشابهان أنا وأنتَ

فأيّ وجهكَ معلمي؟

وأحبُّ فيك طفولتي

صوتي، براءةَ أنجمي

زمنٌ تربّى في مداركَ

أنجبتْهُ مواسمي

حنّاءُ أمّي والرياحين

الخجولة تستفيقُ لمقدمي

فنجانُ قهوتِها الشفيفُ

على شفاهِ تبسّمي

وطني ويأتيكَ الشموخُ

مطأطئاً بكَ يحتمي

نادوكَ هل ناداكَ غيري

هل سمعتَ سوى فمي؟

أحتاجُ مثلك أنْ أحبّكَ

أنْ أموتَ فدا دمي

رائعة، أليست كذلك؟! بل هي شعرٌ خالص، رقيقٌ وعميق، ونهرٌ فاتنٌ مفتتنٌ بانعكاسِ الكائنات على صفحته الرقراقة، كالأقمارِ في نهر بدر شاكر السيّاب الذي يرجُّهُ المجذافُ وَهْناً ساعةَ السحر. وهي شاعرةٌ حديثة مجيدةٌ تشيرُ إلى مستقبلها بقصيدتها المميزة وصوتها الخاص، وإلى وطنها بشعرها وانتمائها وحبِّها وإجادتها. وأنا عندما أفتحُ لها نافذةً هنا، كما فعلت مع كثيرٍ من المبدعين من أهلي، أهل هذا الوطن المبدع، فذلك لأنني أؤمن بأنّ ذلك واجبي، كما أنّ في ذلك متعتي الذهنية، وتربيةً لذائقتي العربية، وينبوعاً لقراءتي وثقافتي، وأنّ نشرَ الجمالِ جمالٌ يثري الجميع، وأنّ هذا هو دور المبدع المنتج المحبّ ليستمرّ جريان النهر، ولتكتملَ الدورة والبدر، لا أنْ يستقلّ في برجهِ، وينأى عن الشباب والأصوات الجديدة والروافد، وعن نوافذ الدهشة المضيئة الجميلة، فيحرم نفسه وغيره أنهار المعرفة المتجددة. وكجمالِ البدءِ بشعرها، يكون جمالُ الختامِ لها:

إنّي إلى النورِ صادٍ

فامننْ عليّ بشربَةْ

يا موطناً من سماءٍ

في الأفق يرسمُ دربَهْ

وفي الحياة اخضلالٌ

وفي ضلوعيَ ندبةْ

ماءان فيكَ تلاقا

ماءُ الوجودِ وكعبَةْ

 

* كلّ الأبيات والمقاطع الشعرية للشاعرة شقراء مدخلي.