سيدتي الجميلة: أيتها النائية كأحلام البسطاء، النائمة في حضن الجبال، المختبئة بعيداً عن البحر الهائج المائج بالأسماك الملوثة بالإشعاع، والأساطيل المدمرة، وحاملات الطائرات المرعبة حيث أوكار طيور الموت العملاقة. هذه الأساطيل التي يسيرها البشر الغرقى في وهْم السلطة والسطوة والنفوذ والمال، وهُم يرفعون أعلاماً زُينت بالجماجم، ودساتير كتبت بدم الأبرياء، ويشعلون حروبهم القذرة، وينشرون شرّهم وخرابهم في مشرق الأرض، ويبنون مدنهم الحديثة المحصنة بالدروع النووية، البعيدة حتى عن الخير والرحمة والعدالة، بثروات الشعوب المنهوبة المغلوبة.

 

أيتها الآمنة في عزلتك المصطفاة، القريبة من السماء بالدعاء، وحكمة الشيوخ، الملونة بحنّاء النساء، المشرقة بحضورهنّ وعطورهنّ، السعيدة بركض الأطفال بملابسهم البسيطة الملونة بالحياة في براءتها الأولى، خارج الزيف والتعقيد والتقييد، كأقواس الله في فضاء الحرية المكتسبة بالقناعة والمساواة والعدل والبساطة الغنية بالقيم والإنتاج الفاعل الموجب لا الاستهلاكي السلبي السريع المجحف.

أكتبُ إليك وضجيج العواصم يقضّ أذني، وشرر الحروب يتطاير أمام عيني حتى قبل اندلاعها، أو هي قد اندلعت فعلاً في كل مكان، فحروب الإعلام الجديدة قد خلفت من القتلى أضعاف ما ترديه حروب الأسلحة الذكية الحديثة، لسرعة انتشارها، وقدرتها الفائقة على قلب الأمور والحقائق، رغم أنه لا جديد في الحروب غير ما علم الإنسان وذاقَ وتجرّع.

نعم هو الإعلام المتلون القاتل، هذا الذي يرفد ويغذي حروب الفتن التي لم تعد تطبخ وتحاك في جنح الظلام في الصالات المغلقة، وخلف الجدران المعزولة، بل أصبحت واضحة فاضحة تتباهى بسحرها، وتستعرض مفاتنها ومساحيقها في صالات عرض ضخمة زوِّدت بأحدث وسائل التقنية، ومع ذلك فلا أحد يحاول منعها أو إطفاء النيران التي تشعلها، بل على العكس فالجميع يستخدمها في سباق المصالح السريعة بعد أن سلبت عقولهم وعيونهم، وظلوا يلهثون خلف الحسابات الكبيرة التي لا تهتم بالتفاصيل الصغيرة، والحروب الإقليمية، البعيدة عن مراكز القوى العالمية، وهم مخطئون، ورغم علمهم لا يعتبرون من دروس التاريخ، فمتى أشعلتَ نيران الحروب، لا يمكنك التنبؤ بالتقلبات، وأين ستقودها رياح الطبيعة والتغيير.

وهنالك أيضاً في سلال الحروب الضخمة حروب الاقتصاد التي خلفت شعوباً بلا غذاء أو دواء أو ماء، وأفرزت المجاعات والهجرات واللاجئين، والتصفيات التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ولا تسألي عن الأسباب، فلا شيء يبرر الإبادة.. لا الماء ولا النفط ولا المال، لكنهم اليوم لا يأبهون، فمجلس الأمن، أو الأمم غير المتحدة تشطب شعباً أو وطناً عن الأرض بناء على الكذب والحجج الواهية، أو لأن وزير خارجية دولةٍ عظمى لم تعجبه ربطة عنق نظيره اللاتيني أو الآسيوي مثلاً. وهم يروجون اليوم أن العالم قرية صغيرة، ولكنها أبعد ما تكون عن قريتك الجميلة المكتفية المانحة للسكينة والخير والحب.

يا سيدتي قريتك هي الغيم والحلم، وقرانا المتناثرة هي قرى الواقع الأسود والكوابيس والموت والدمار والخراب. قريتك هي الخصب، وقريتنا هي الأرض اليباب.

قريتنا الزرقاء الكبيرة هي المقبرة الكونية، وحيث ما وليتِ فلن تري إلا الشواهد ونسور الموت والحدود والأسوار والأسيجة الحديدية الصدئة والغربان، ومع ذلك فالأموات فيها لم يكتفوا ولم يشبعوا، وها هم بهياكلهم العظمية وقد مُزّقوا كلّ ممزقٍ يسعون إلى حروبٍ جديدةٍ، ودمارٍ أخيرٍ عظيم. وأرجو أن لا تفهميني خطأً هنا فأنا لا أكتبُ إليك بحثاً عن موئلٍ أو ملجأ، فأنا من المؤمنين بالقدر خيره وشرّه، ومن المحبين لأرضي العربية هنا، ونخلي وشعري وقهوتي، لكنني ربما زرتك لبعض الوقت للاستمتاع بطبيعتك وهدوئك لإنجاز بعض كتاباتي المؤجلة إن أسعفني الوقت ولم تقعْ حربٌ جديدةٌ هنا أو هناك، فتُغلقُ حدودٌ، ومجالات جوية، ومطارات، ونحن أساساً نواجه في منطقتنا هذه من العالم مشاكل مع التأشيرات، ولعلك بثقافتك ودرايتك تعلمين سرّ ذلك، ولعلك لعزوفك عن السياسة لا تعلمين.

أنا أكتبُ إليك أيتها العزيزة لأنني معجبٌ بك، وبحكمة أهلك وطيبتهم وبساطتهم، ولأعبر لك عن امتناني لوجود مثلك في هذا العالم المقلوب، ولوجود الجمال مقابل القبح الذي يستشري.

وستصلك مع رسالتي هذه مجموعة من أعمالي الداعية للحق والحب والخير والجمال والمساواة والعدل، أرجو أن تنال استحسانك، وأن تجد لها مكاناً في مكتبتكم الخشبية الدافئة المشرفة على حقل الياسمين الكبير..

الله كم بودّي أن أقرأ لكم شعراً وللياسمين، فأنا وأهلي رغم الحروب المفروضة علينا، والفتن المزروعة على أراضينا، الممزقة لوحدتنا، الباعثة للكراهية والسواد في أفكار وأفعال بعض أهلنا، نحب الشعر والياسمين والحسن والجمال، ونحبّ الناس كل الناس، ولا نميّز بينهم، فديننا دينُ حب ٍّ ورحمة، وأخلاقنا كريمةٌ نبيلةٌ أصيلة، ولكننا ابتلينا بمن يقتلنا ويقسّم ويدمر أوطاننا وهو منّا، رفع الله البلاءَ عنّا، وأبعده يا ربّ عنكم. آمين.