هنالك شعراء اشتهروا ببيتٍ واحد، أو قصيدةٍ واحدة، وقد كان ذلك كافياً لتخليدهم في الذاكرة والذائقة الشعرية العربية، لأنهم ارتقوا بها، بعد أن أسسوا لها، والذائقة الشعرية العربية لا تشبهها ذائقة في كلّ الحضارات عبر التاريخ. 

وشاعرنا الفقيه عروةُ بن أذينة أحد هؤلاء العباقرة، وهو أبو عامر عروة بن أذينة بن مالك بن الحارث الليثي الكناني، وأذينة لقبه، تابعي جليل، وشاعر غزل وفخر، وشريف مقدم من شعراء المدينة المنورة، وهو معدود في الفقهاء والمحدثين، وأحد ثقات أصحاب حديث رسول الله، سمع من ابن عمر، وروى عنه مالك بن أنس في الموطأ وعبيد الله بن عمر العدوي، توفي في 130هـ. وهو معدود من الفقهاء والمحدثين أيضاً، ولكن الشعر غلب عليه. ورغم أن له ديوانا شعريا، وأكثر من ستين قصيدة في أغراض شتى فإن الناس لا تتذكره في الغالب إلا عبر قصيدته الغزلية القصيرة المكثفة، الطويلة الجميلة كنخلة عربية أصيلة: 

 إنَّ التي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّها

 خلقت هواكَ كما خلقتَ هوىً لها.

 وقد كانت من مفضلات أديبنا أبي عبد الرحمن عبد الله نور -غفر الله له- ورحمه رحمة واسعة، وكان يرددها بصوته الجهوري، وإلقائه المميز في كل ناد، حتى تكاد تحسبها له من شدة حبه لها، وتعلقه بها، فحفظناها عنه، ومما يشبه حال أبي عبد الرحمن معها، ما رواه مصعب بن عبد الله في حكاية القصيدة، عندما أتاه أبوالسائب المخزومي، فقال له بعد الترحيب، ألك حاجة؟ فقال: نعم أبيات لعروة بن أذينة بلغني أنك سمعته ينشدها، فأنشدته الأبيات فلما بلغت قوله:

 فدنا فقالَ لعلّها معذورةٌ

من أَجْلِ رِقْبَتِها فَقُلْتُ لَعَلَّها

 طرب وقال هذا والله الدائم الصبابة، الصادق العهد لا الذي يقول:

 إنْ كان أهلُك يمنعونك رغبة

عني، فأهلي بي أضنُّ وأرغبُ

 لقد عدا هذا الأعرابي طوره، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحب هذه الأبيات لحسن الظن بها، وطلب العذر لها، قال: فعرضت عليه الطعام فقال: لا والله ما كنتُ لأخلطَ بهذه الأبيات طعاماً حتى الليل.

والشعر الذي يكتب من الداخل للخارج، يثري الداخل والخارج، وينمو كشجر الذاكرة ويثمر، ويخلد كهذه القصيدة الرائعة الخالدة:

 إنَّ التي زَعَمَتْ  فُؤَادَكَ مَلَّـــــها

خلقت هواكَ كما خلقتَ هوىً لها

 فِيكَ الذي زعمتْ بِها وكلاكُمـــا

 يُبْدِي لصاحِبه الصَّبابَةَ كُلَّــــها

 وَيَبِيتُ بينَ جَوانِحي حُبٌّ لــها

لو كانَ تحتَ فِراشِها لأَقَلَّــــــها

ولعمرها لو كان حبّك فوقـــــها

يوماً وقد ضحيت إذاً لأظلّـــــها

وإِذا وَجَدْتَ لها وَساوِسَ سَلْوَةٍ

شَفَعَ الضميرُ إلى الفؤادِ فَسَلَّها

بَيْضاءُ باكَرها النعيمُ فَصاغَها

بلبـــاقةٍ فأدقّــــها وأجلّـــــــها

لمَّا عَرَضْتُ مُسَلِّماً لِيَ حـاجَةٌ

أرجو معونتها وأخشى ذلّـــها

حجبت تحيَّتها فقلتُ لصاحبي

ما كان أكثرها لنا وأقلّـــــــها

فدنا فقال: لعلّـــــــها معذورةٌ

من أَجْلِ رِقْبَتِها فَقُلْتُ لَعَلَّـــها

 يا لهذا الحبّ العظيم الذي هو فراشٌ وغطاء، وأرضٌ وسحابٌ وسماء.

وأنا بدوري أردّدُ معهُ بعد قرون ذبلت فيه شجرة الأمة، وأصبحت الضاد نشازاً في آذان بنيها: ما كانَ أكثرها لنا وأقلّها، ولكنني أعني القصيدة التحفة التي حجبها عن ذائقة الأجيال أصحاب المناهج التعليمية في الوطن العربي.

ونعود إلى صاحبنا وقصته الطريفة مع هشام بن عبد الملك، والتي ترد في روايات متعددة، منها للتنوخي: (عروة بن أُذَيْنَةَ يفد على هشام بن عبد الملك):

عن يحيى بن عروة بن أُذَيْنَةَ، قال: أضاقَ أبي إضاقةٌ شديدة، وتعذَّرت عليه الأمور، فعمل شعراً امتدح به هشام بن عبد الملك، ودخَل عليه في جملة الشعراء، فلمَّا دخلوا عليه نسبهم، فعرفهم جميعاً وقال لأبي: أنشدني قولك: لقد علمت.. فأنشدهُ:

 لَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا الإِشْرَافُ مِنْ خُلُقِي

 أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي

 أَسْعَى لَــــــــــــهُ فَيُعَنِّينِي تَطَلُّبُهُ

 وَلَوْ جَلَسْـــــــتُ أَتَانِي لاَ يُعَنِّينِي

 لاَ خَيْرَ فِي طَمَعٍ يَهْدِي إِلَى طَبَعٍ

وَعُلْقَةٌ مِنْ قَلِيلِ العَيْشِ تَكْفِينِي

لاَ أَرْكَبُ الأَمْرَ تُزْرِي بِي عَوَاقِبُهُ

وَلاَ يُعَابُ بِهِ عِرْضِي وَلاَ دِينِي

 فقال هشام: ألا جلست في بيتك حتى يأتيك رزقك؟ قال: وغفل عنه هشام، فخرج من وقته، وركب راحلته، ومضى منصرفًا. فافتَقَده هشام، فسأل عنه، فعرف خبره، فأتبعه بجائزة. فمضى الرسول، فلحقه على ثلاثة فراسخ، وقد نزل على ماء يتغدَّى عليه، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أردت أنْ تكذبنا، وتصدِّق نفسك؟ هذه جائزتك. فقال: قل له: قد صدقني الله، وأتاني برزقي بحمده.

ويروى أنه كان يخرج في الثلث الأخير من الليل إلى سكك البصرة فينادي: يا أهل البصرة، أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ . الصلاة الصلاة.

هذا شاعرٌ لا يشبهُ أحداً، هنا شاعرٌ لا يشبهُ إلا نخل المدينة.

***

* المعلومات والروايات من الأغاني، والعقد الفريد. وترصد الموسوعة الحرة أربعة مؤلفات عن شعره: أخبار عروة بن أذينة لحماد بن إسحاق الأزدي، وديوان عروة بن أذينة للدكتور يحيى الجبوري، وشعر عروة بن أذينة للأمين محمد عثمان الزاكي، وعروة بن أذينة لعرفات منصور