تُعوّل الولايات المتحدة الأمريكية كثيراً، مع أداتها حلف النيتو، على مسح هويات الأمم والشعوب ومسخها، وعلى هدم الحضارات لإنشاء دول ممسوخة، وهويات مزوّرة باهتة لا مرجعيات لها. وهي تستخدم في ذلك كل المعاول الممكنة لديها، وكل ما يمكن أن تستعيرَه من معاول ممن يدور في فلكها،
أو يحتاج إلى أوراقها الخضراء، أو يرغب في احتلال أي موقع في الوطن المسخ الذي تنشئه على دماء وركام ورماد الأوطان الأصيلة العريقة، وأول هؤلاء، وفي الطليعة بطبيعة الحال مثقفو وإعلاميو الترويج والترويح..
وهي تستند في ذلك إلى تراث استعماري خالص لا تزال شواهده حاضرة في محيطها الجغرافي، ومن ذلك الإبادة الجماعية ( الهنود الحمر)، والرق، والاستعباد، والتمييز العرقي ( السود)، والاضطهاد الطبقي العرقي والامتهان ( الهسبانك )، وغيرهم.
وشواهد أخرى حاضرة عبر العالم كما حصل في اليابان، وكوريا، وفيتنام، وأفغانستان، والعراق، ولبنان، ودول أمريكا الجنوبية، وغير ذلك كثير تثبته الوقائع حتى ساعتنا هذه، ويأتينا به دقيقة من لم نزّودِ.
أما لتحقيق أهدافها فهي تعتمد على سطوتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية، وإن كانت الأخيرة قد بدأت تصبح سلاحاً ضدها لا لها، مع ثورة علوم الاتصال وأدواته، وبدا ذلك جليا في حربها على العراق حيث لم يستطع احتكارها للإعلام، وتزويرها للوقائع، من ظهورها عبر العالم بصورتها البشعة، مما أفقدها سيطرتها، فلجأت إلى تهديد الجهات الإعلامية التي لا تتبع هواها، ثم أفرزت مشروعاً إعلاميا للمنطقة بقيادة كولن باول الكاذب الأشهر، الذي أثبت فشله الذريع، وسقط سقوطا مدويا،ومن ذلك قنوات الحرة التي ليس لها من اسمها نصيب كما يعلم الجميع, وغيرها كثير، فلم يكن لها بالتالي أي حضور لدى المتلقي العربي، كما أثبتت ذلك استطلاعات الرأي الغربية، فاستعانت بقنوات غير حرة، مع إطلاق مشروعها الصهيوني: الشرق الأوسط الكبير، لمسح ومسخ ما تبقى من كيانات عربية وإسلامية.
ومن معاول هدم الثقافات الأخرى، والهويات، معول الثقافة الاستهلاكية بدءاً من الأفلام الهوليوودية ذات الميزانيات الضخمة والمحتوى الفارغ لبث رسائل استخباراتها، واستعراض قوتها بطغيان لافت، واستهتار ببقية شعوب وحضارات العالم، ومدٍّ استهلاكي لا ينتهي بمطاعم الموت البطيء.
فثقافة الكوكاكولا والهامبرجر وبقية " الجنك فوود" ضارة رغم بريقها وحلاوتها الظاهرية، بل والمتعة السريعة المصاحبة لها. وهي رمز لثقافة هُولِيوود الراكضة وراء المال بأي شكل، المعتمدة في الغالب أية أداة قانونية أو غير قانونية، وعلى المتع السريعة مقابل الربح السريع، كالجنس، والجريمة، والمخدرات، وهذا لا ينفي وجود نوعية جيدة من النتاج، إلا أننا نتحدث هنا عن السائد، وليس عن النشاز.
وقد عملت دولٌ أوروبية كثيرة، كفرنسا، وإيطاليا، واليونان، وأخرى كالصين، وكوبا، وفنزويلا، بل وحتى دول عربية كما في المغرب العربي على تحصين نفسها, وحماية ثقافتها، وخصوصيتها، وهويتها من هذا المد التتفيهي الماسخ لقيم الحياة والحضارة، ومن هذا الاستعمار الجديد الممهد للهيمنة الكلية الشاملة.
بينما فتحت دولّ أخرى بواباتها وعقولها وكل شيء تقريبا للمستعمر الجديد أيا كانت أدواته، وارتأى منظروها، عبر منظمات ومراكز وصحف باتت معروفة ومكشوفة، في هذا الغزو خير سبيل لنماء بلدانهم، "وتحررها "، ودخولها العالمية،على حصان العولمة الهجين.
ولكم يبدو منظرهم تعيساً وهم يضعون العربة أمام الحصان، ويقودون بهذه الغشاوة أوطانهم نحو الهاوية السحيقة.
وجميع من قرأت له، شاهدته، أو استمعت إليه منهم يصيبه العمى والصمم عندما يضرب له ما حل بالعراق على سبيل المثال لا الحصر، من تدمير لكل البنى، ونهب للمتاحف والمكتبات، وتزوير للهوية العربية الإسلامية حتى قولهم بأنه ليس بعربي، وتهيئته للتقسيم بدءاً من ترسيخ العلم الكردي، وتأجيج الطائفيات، وقتل وتصفية اآلاف العلماء والمثقفين، والنهب والتهريب المنظم للآثار، والتحريض الرخيص عبر إعلامه ضد الدول الحدودية، ما عدا إيران بطبيعة الحال، وحتى المهاجمة المنظمة لأي صوت عربي صادق يقف ضد ما يجري من هناك من مهازل..
هذا هو نموذج الديموقراطية، والهوية، والثقافة الجديدة، والعولمة كما تريدها أمريكا، ويقلقنا بها مروجاً خليطٌ من الكتاب العرب اليوم.
فبربكم ما نحن فاعلون للحفاظ على هويتنا, قيمنا، ولغتنا؟!
وما الذي نحن فاعلوه للحفاظ على أوطاننا، وقد لاحت هجمات التتار الجديد، وبدت طلائعهم التبشيرية بأقلام من تعلمون، ومن لا تعلمون..
وها نحنُ كما تروْن.