وما زلنا نقول:

أحَب الشعر الحرية وقيم الإنسان العليا والاستقلال والتغيير والتجديد فخرج على  الرق والأسْر والأسرّة والعادي والرتيب والبارد ولم يفعل ذلك الشعراء.
وانتفض الشعر على التقعر والتصنع والألعاب اللغوية ولم يفعل الشعراء.
وتمرد الشعر على الأرفف والغبار والجمود والرماد، وانحاز للناس والهواء والحياة بكل تناقضاتها ولم يفعل الشعراء.
خرج الشعر من القلب لا من اللسان، وهدته الرؤية والبصيرة، حاور الشك، وابتغى اليقين، جاد بالأسئلة، وطار بأجنحة الموهبة، فحلٌق عالياً، ووصل إلى قلوب الناس نابضاً دافئاً حيّاً نابهاً منبهاً جريئاً مدوياً هامساً عذباً جواداً نبيلا.
خرج الشعر من الروح سحاباً ممطراً فتلقته الأرض فأنبت من كل لون بهيج.
وخرج الشعر على الظلم والاستبداد والقهر والاستعمار والقتل وصاحب الحق والخير والجمال.
خرج على الكراهية والحقد واصطفى الحب والدفء والصفاء.
وقاتل الشعر وقاوم في سبيل المبادئ والقيم وانتصر للقضايا العادلة فلا شعر يؤيد الاحتلال والاستعمار والتدمير والتهجير والأسر.
ولا شعر يحتفي بالمحتل وينثر عليه الورد ويقلده القصيد.
ولا شعر يتكئ على المستعمر ليصل لغاياته الرخيصة.
ولا شعر يصدح تحت أحذية المستعمر، بل يصدح الشعر تحت أشجار الحرية، وفوق أغصانها.
الشعر هو غناء الإنسان بكامل إنسانيته، والشعر والكلمة أيضاً طلقة مقاومة، ورصاصة في جبين الغاصب، وسلاحُ في يد المنتفضين على الاستعمار قديمه وجديده .
وعندما يدعونا الفرحون بالاحتلال، القادمون معه، القابضون منه، أو المستكينون له أن نمجد هذا الاحتلال بالصهيل تحت رايته فإننا نرفض لأن الشعر يرفض هذه المهانة والخيانة.
وعندما يشتمون من يرفض فهذا يزيدنا إصراراً، ويثبت بما لا يدع للشك بأننا الحق وهم الباطل، وبأننا مع كرامة الإنسان وعزته وحريته، وهم مع أنفسهم المريضة الخانعة.
لا يتلوث الشعر، ولا يتلوث المنبر.. بل يتلوّث الشعراء المتلونون الحربائيون.
ولا يموت الشعر، فالشعر الإنسانيّ لا يموت.
وشعر الحب لا يموت.
والشعر المقاوم لا يموت..
بل يموت الخونة والانهزاميون والبائعو ضمائرهم وأمتهم وهويتهم وأهلهم وكرامتهم.
لا يموت الشعر بل يموت من يشربون من كأس المحتل، ويأكلون على موائده، ويتغنون بديمقراطيته اللعينة التي تحصد الملايين من الأرواح البريئة من أهلهم، وتأسر مئات الآلاف، وتترك عشرات الآلاف من الجرحى والمرضى يتعفنون حتى الموت، ومن سلم منهم من بعد ذلك يجد نفسه بلا سقف ولا دخل ولا زاد.
لا يموت الشعر بل يموت الذين يستوي عندهم القدس الشريف والبيت الأبيض..
لأنهم لا يحسنون الركوع إلا للمحتل، ولا يعرفون التقبيل والتطبيل إلا لحذائه..
ولقد اتضح أن هؤلاء المنافقين هم أسرى الاحتلال.. هم الأسرى، وليس الأبطال الذين يقاومون من أجل أمتهم وهويتهم وأهلهم.

لقد أحب الشعر الناس فرفعهم، واستطال بهم نحو شموس العزة والكرامة، ولم يفعل ذلك الشعراء الضالون الذين ارتبطوا دائماً بالوحل والضحالة، وارتبطت أشعارهم بالحضيض عبر العصور.

الشعراء الذين ما عرفوا أن الشعر كالحب، كما قلت مرةً: ليس له تعريف دقيق، ولا توصيف عميق، لكنه أقرب ما يكون للشجر، متشابه، وغير متشابه، له تربته المعرفية، وله جذوره الضاربة في التاريخ، وله بوصلة الاستدلال على الينابيع، وله القدرة على شق الأرض والحجارة، كما له القدرة على التشبث بها، والشعر كالشجر يسمو دائما نحو الشمس والأفق، يزهرُ ويثمرُ، وتغني من خشبه أعواد الدهشة، وتردد خلفه أصوات المنشدين. يقاوم الريح، ويتثنى مع النسيم، ويمزج الأضداد، فهو على سفرٍ  ومقيم، ظلالُه خاصة ومشاعة، وفاكهتهُ مُحللة، محرّمة!!

ولا يستطيع الشاعر العربي اليوم أن يعيش في عالمه الخاص منقطعاً عن العالم،  كما أنه لا يستطيع العيش بدون نظام، وأمن، وسقف ككل الناس، ولا يمكن أن لا يكون له انتماء لقطر أو بلد محدد، وأن لا يحمل هوية وجواز سفر.. ولكنه عبر وطنيته أيضاً عليه أن ينتميَ لحضارته العربية الإسلامية، وأن يفهم حضارات العالم.

لقد تغير العالم من أيام الشنفرى، وطرفة، إلى اليوم.. لكن القيمة الشعرية لم تتغير. فالشعر كما ذكرت متشابه وغير متشابه، ولكل شاعر رؤيته وعالمه ولغته وأسلوبه الخاص، وهنا جمال الشعر الذي يترك للذائقة أن تنتقي وتختار وتحكم.
الشعر ليس فرض عين، وليس تجنيداً إجبارياً، أو اختباراً لنيل وظيفة، أو سعياً خلف منصب.. بل هو مسألة اختيارية كتابة وقبولاً، فعلاً ورد فعل، تحدياً واستجابة.
لا إكراه في الشعر، فالشعر كبقية الفنون ليس فرض عين، والشاعر لا يضرب على يده ليكتب، والمتلقي ليس مجبراً على الافتتان أو الاستماع لمن لا يتذوق ولا يحب.. وهذا ما لا يفهمه جمهور الأمسيات الشعرية خاصة في الأندية الأدبية، كما لا يفهمه من يعد لهذه الأمسيات.
ومن جهة أخرى.. لا يمكن تصنيف الشعر والشعراء كما يُفعل اليوم، وذلك ببساطة لأن الشعر ليس " موضة " أو تقليعة، وهو لا يندرج تحت تصنيف زمنيّ أو مرحليّ أو شكليّ كما يفعلون، حتى أنهم أصبحوا يصنفونه كل عقد، فهذا تسعيني، وهذا ثمانينيّ، وذاك سبعيني، هذا خطأ كبير، فالشعر امتداد واستطالة، وتراكم لا نفي، والشعر تربة وجذور وشجر وأوراق وثمار.
ولا بد من أن يكون للشاعر موقف، حتى في الحب.. ولكن ليس بالضرورة أن تطغى السياسة على الفن.. فهنالك معادلة صعبة لا يحسنها إلا قلة من الشعراء.
وعلى الشاعر، والكاتب بشكل عام، أن يكون عادلاً منصفاً فليس كل ما يدور حوله سيئاً لأنه لم يعجبه، أو لم يلب احتياجاته، كما أن الحلول لا تأتي من الصياح، ورفع الصوت حد الشتم، وليس على الشاعر أن يعارض للمعارضة لكسب الجمهور، بل على العكس تماماً، إنها مسألة مبادئ وأخلاق وشرف وحب للأوطان.. والوقوف معها في أزماتها، والنهوض معها في تطلعاتها، والتفكير في قضاياها بشكل عميق وبعيد وإستراتيجي، وليس عبر انفعالات اللحظة، والعيش بعد ذلك بسعادة وأمن في نعيمها، فهي عزيزةٌ كما قال الشاعر وإنْ جارتْ!!