في عام 1962 كتب سعدي يوسف من البصرة إلى أبي تمام قائلاً:

" ما عاد عالمنا استعارة
معنىً, وتشبيهاً, وزخرفةً ثمينهْ
ما عاد عالمنا تجارة.

**

لكنني, والبحر يغسل جبهتي برداً ولينا
سأظلّ منتظراً خطاكْ
وحديثك الليليّ, يا قمراَ حزينا..

**

 

لو جئتَ عالمنا, لكنتَ معي سجينا! "

وبالفعل عاش سعدي سجين غربته كمبدع وكمغترب, موزعاً على العواصم, وإذْ رأى بعض المغتربين إمكانية العودة إلى بغداد مهيأة اليوم, رأى سعدي خلاف ذلك, واستمر بعيداً عن " السماء الأولى ", مواصلاَ نأيه في بريطانيا, يكتب قصائد تقطر دماً على ما أصبح عليه العراق اليوم.

التقيت الشاعر الكبير سعدي يوسف أكثر من مرة, وفي أكثر من عاصمة, وكنت التقيته مرات ومرات لا تحصى على صفحات البياض المنقوش بإبداعه وترجماته السلسة الدافئة التي تحمل حرفيته, وروحه الشعرية.
أول ما تعرفت على شعر سعدي عبر أعماله الشعرية الكاملة عام 1982, وكانت نسخة مستعارة طبعت في دمشق على ما أذكر في العام 79, سرعان ما استبدلتها بواحدة اشتريتها من هناك في نفس العام, وكنت شغوفا بها أطالعها في مقاهي دمشق, واحفظ مقاطع منها بإعجاب كبير.
ومن دار العلوم في الرياض, مصدر كتبنا الأول بعد السفر, ابتعت أول كتابين أطالعهما من ترجمة سعدي وكانا لهنري ميلر, وريتسوس شاعر اليونان الكبير وعنوانه " إيماءات ", واعتقد أنه سبق فيه الآخرين إلى فهم هذا الشاعر المهم, واقترب فيه من روح الشعر أكثر من غيره.
ثم تابعت كل أعمال سعدي تقريباً وأحسست بقرب شديد من كتاباته, وإن لم يكن ذلك مقروناً بقربٍ من مواقفه.
التقيت سعدي أول مرة في باليرمو بصقلية إيطاليا, أو هي صقلية العرب, حيث دعينا من قبل عمدة " جبلينا " والد المستشرقة فرانشيسكا كوراو التي ألفت كتابا عن شعراء المنطقة إبان الزهو العربي الإسلامي.
كان احتفالاً رائعاً بالكتاب, وبجبيلينا العربية, وبالشعر, والشعراء العرب والإيطاليين, وكانت فرصة العمر أن ألتقي بالشاعر الذي أكن له احتراماً كبيراً, وحباً لا يوصف. ومن منا يقرأ " الأخضر بن يوسف ومشاغله ", و " نهايات الشمال الأفريقي " ولا يسعى إليه سعيا.
ثم التقيت سعدي في مسقط في مهرجان الشعر العربي الأول, وكان لي أن أحصل على وقت أطول مع الشاعر والإنسان الكبير..
كان الجميع مشتاقا لسعدي, وفرح به. معظمنا تتلمذ على تجربته, وكنت أنا والشاعر محمد الحارثي نشاغبه ببعض المقاطع من شعره مع قهوة الصباح, فيرد علينا بضحكة عالية:

" صباح الخير عبد الناصر الغلطا "

بعد اختتام المهرجان دعانا الشاعر الصديق محمد الحارثي, وأخوه الشاعر دونما كتابة عبدالله, للإقامة في بيتهما الأصيل الكريم, ونفحا كلا منا غرفة خاصة, أما الصالون فكان صالونا ثقافيا بحق حيث يجتمع مثقفو عُمان مع شاعرهم الكبير من الصباح الباكر, ويعدون لنا برامج غاية في الجمال, تعرفنا فيها على البر والبحر, وفي الصحراء كان سعدي يجمع السمر مميزا إياه عن غيره من الأغصان, وفي الجزيرة الصغيرة التي اصطفيناها كان يدهشنا بخبرته في أنواع الصخور والحجارة والأصداف...
لقد كان يتفحص كل شيء, وبعين ثاقبة يقرأ كل التفاصيل..
إنه شاعر التفاصيل بحق.
كان لهذه الأيام أن تعرفني على تفاصيله الصغيرة, وعينه المدربة, وثرائه المعرفي, وبساطته, وحزنه العميق الذي يتناسب مع شعره الرمادي, وكنت أقول في نفسي: وهذا شاعرٌ آخر يشبه قصيدته:

" حملتُ على رمال شمال إفريقيّةَ السعفا
وأحرقتُ الخرائطَ في مرافئ مصرَ:
بين الشرقِ والمنفى
وعبر دروبِ بنغازي, ودرنةَ, كنتُ أسأل عن هويتيَ
التي مزّقتها نصفين:
أعطيتُ المفوّضَ نصفَها, وحبيبتي نصفا. "


يكره سعدي يوسف الفنادق, ويحب الأشجار بكل تفاصيلها, وتكاد لا تخلو قصيدة له من عالمها الخرافيّ من الجذع أو الساق إلى الزهرة.
لأنني عندما هاتفته من فندق الشرق الأوسط في عمّان قال لي: لم لا تجيء إليّ, فأنا لا أطيق الفنادق, وفهمت ما يقصد.
واعدني عند الزاوية المقابلة للفندق, ولم يكن بيته بعيداً, فمشينا إلى البيت..
في المدخل كانت هناك حديقة صغيرة جميلة تحتوي على كل شجيرات سعدي المفضلة.. لكأنه ينقل وطنه معه أينما سافر, وحيثما اغترب, معلّقاً بين الحياة والموت:

" قرّبتُ غصناً لِصقَ آخرَ,
ثم قلتُ: أموتُ بينهما.
وقلتُ: لعلّ غصناً ثالثاً ينمو
فيضفر كلّ أوراق الغصونِ شجيرةً
ولعلَّ..
لكنّ الخريفَ يُباعدُ الأغصانََ
والأوراقَ
والموت الجميلْ. "

جلسنا في مكتبه الصغير, كان حزيناً ومتشائما من الأوضاع, كان ذلك في عام 1997, تحدثنا طويلاً, وأخبرني عن رغبته في زيارة الهند والمكوث فيها لعدة أشهر, وسألني عن ردود الفعل على كتابته في جريدة الجزيرة, ثم أهداني مجموعة شعرية جديدة وخاصة, أنجزها مع فنان تشكيلي عراقي مقيم في إيطاليا, وطبعا منها نسخاً محدودة, لم أعد أذكر اسمها حيث تاهت في رفوف مكتبتي منذ انتقلت من شقتي القديمة.
في الليلة التالية دعانا للعشاء في حديقته وجاء عبد الله الصيخان ومجموعة من الشعراء العرب والعراقيين الذين شاركوا في مهرجان جرش لذلك العام.
بعد ذلك صرنا نلتقي يومياًً, ولم يكسر تمنعه عن المجيء للفندق إلا سفري, فجاء لتوديعي, ثم قرر أن يرافقني للمطارِ مع مجموعة من الأصدقاء, وكان غاية في الانطلاق والسعادة عدا حزن اللحظة الأخيرة.
مرت الأيام والشهور لا يجمعنا إلا الهاتف, وفي عشية لا أنساها كان صوت موظف الخطوط السعودية الخلوق من صالة الترانزيت في مطار الملك خالد الدولي بالرياض يخبرني بأن مسافراً لديه يسأل عني, لم يكن ذلك المسافر غير شاعرنا الكبير.
هرولت إلى سيارتي, وذهبت متلهفاً إلى المطار. قال لي الموظف الذي لا أنسى معروفه إنه سيدخلني لمقابلة سعدي, وهكذا كان. كانت زوجته الفلسطينية فتحية ترافقه وهي شقيقة الفنانة والنحاتة المعروفة منى السعودي, وكانا متجهين إلى كندا.
جلست معهما إلى أن اقترب وقت المغادرة, تحدثت مع سعدي عن كل شيء تقريباً, وفي داخلي كان الحزن يمطر على هذا الشاعر الذي لا يعرف الاستقرار:

" غريبٌ أنت في الأرض التي تمتدّ بين جداولِ البصرةْ
وأسوارِ الرباطِ:
رأيتُها غصناً فغصناً, صخرةً صخرةْ "


عدتُ بعد منتصف الليل إلى بيتي عبر طريق المطار الطويل, والذي كان أطول مما هو عليه عادةً, أتفكر في أحوال الشعراء العرب, وكيف يقضون أعمارهم غرباء حتى ولو كانوا في ديارهم.
دخلت مكتبتي.. أخرجت ديوان سعدي وقرأت حتى الفجر.. يا لها من قصائد تنهمر كالمطر, وتلامس الروح بغناء لا يجيده إلا من تغرّب وانفطر.

يمتلك سعدي يوسف عيناً مدربةً ذكيةً تلتقط أدق التفاصيل, وترسمها قصائد تعبرعن مواقفه وآرائه ونظرته للحياة كما هي, وكما يشتهيها.
أي أنه يمتلك إبداع المصور والفنان التشكيلي. فهو يلتقط ويرسم قصائده..
ثم وبلغة صافية عذبةً طيّعة, دافئة رقيقة, رغم حدة مضامينها أحياناً, تشبه البوح الهامس.. يرتقي للغناء.
والذي يزور بعض الأماكن التي أوردها سعدي في قصائده كالمطارات والمقاهي سيجدها كما صورها تماماً. وهذا ما تحققت منه منتظراً لساعات في مطار أثينا..
عندما قلت بصوت سمعه من حولي ولم يعوه: يالك من شاعر فذ.
إنها القدرة الهائلة على التقاط التفاصيل, والعادي واليومي لصياغة المعاني الكبيرة.
فسعدي المسكون بالشعر والغناء والحزن والغربة لا يمر على الأماكن مرور الشعراء الفوضويين الذين يجردون الأماكن من تفاصيلها الجميلة, وحتى من ناسها,
ليضعوا تماثيلهم ومراياهم, ويلغوا موسيقاها بأصواتهم وضجيجهم...
سعدي ينساب مع الأماكن ويذوب فيها, ويخرج منها بها. لكأنه يعوّض الغربة بالالتئام, وبالتشبث بالتفاصيل بجعلها جزءاً منه ومن قصيدته ومن استعاداته,
بمحاكاتها بفضائه الأول, وسمائه الأولى.

ولعله ترجم " ريتسوس " على هذا الأساس.
ففي ترجمة ريتسوس لا تفارقنا روح سعدي, وربما قلنا إنه يترجم لشاعر يعرفه جيدا حد الصداقة والتشابه.. والواضح أنها هي تفس حكاية سعدي مع الأماكن, إنه الشاعر الذي يعطي للأماكن والشخصيات من روحه ومن عينيه العارفتين القادرتين على اصطياد التفاصيل واللحظات أيضاً.
والمفارقة هنا أنه رغم الغربة والخيبات إلا أن سعدي كان يتآلف مع الأماكن والتفاصيل والوجوه.
والقارئ لشعره يلحظ أن سعدي يكتب كما لو كان مولودا في تلك الأماكن, مسكوناً بشوارعها مبانيها ومقاهيها وأهلها. فمن أين يأتي الغريب بكل هذا الحب والدفء والجمال؟!
وكيف ينقل العابر ما لا يستطيع اقتناصه المقيم المستديم؟!
فالمغرب العربي يتهادى في شعر سعدي من الجزائر وبلعباس إلى تونس إلى بنغازي, كذلك هو الحال مع عدن وبيروت ودمشق وبقية المدن التي ألِفَ وإن اختلفَ..
لكنه يظل وهو طليقٌ أسيرَ تلك المدينة الجنوبية.. البصرة: السماء الأولى.

وليس أبلغ من هذه الأبيات الحارقة لاختصار غربة سعدي:

" حملتُ على رمالِ شمال إفريقيّةَ السعفا
حملتُ الطلعَ من منفى إلى منفى
وسبعاً كانت السنوات, سبعاً كانت الأرضونَ, بعدك,
والسماواتُ
وأنتِ هنا, الرضيّةُ:
سعفُك الشاحبْ
سواقيكِ الصَّموتُ, وطينكِ الذائبْ
وأنتِ هنا الصغيرةُ,
يا أميرتيَ الجنوبيّةْ
أتنسَيْنَ الأحبةَ هكذا؟
هل تقبلين تعفّن المنفى
لمن قبِلَ الشهادةَ, دون وجهكِ, يا مدينتيَ الجنوبيّةْ. "

واليوم, ومن لندن, يكتب سعدي بنفس الروح والحرقة وربما بمرارة أكبر في قصيدته رسالة أخيرة للأخضر بن يوسف:

" اليومَ حاولتُ أن أتبيّنَ ما كنتَ تكنِزَهُ آنذاك.. تُرى كنتَ تأملُ
في أن ترى الموجتين وقد غدتا موجةًً؟
ربّما!
لستُ أدري..
وهاأنتذا تتلقّى الرسالةَ
هاأنتذا تتقرّى الرسالةَ
هاأنتذا. آ...
وهاأنذا...
............................
............................
.............................
نضربُ الصّنجَ, ثانيةً, في العراءْ. "

ترى هل أغلق سعدي الباب, وأطفأ الضوء, أم أنه كعادته سيفتح في الغد كوة للنهار!!