الأسوارُ والجدرانُ والحيطان، مفرداتٌ لها في النهاية معنى واحد، وإن اختلفت دلالاتها، وما يراد منها باتخاذها حول فضاء معين.

فجَدَر الجِدارَ حَوَّطهُ، واجتدرَ الحائطَ بناه وشيَّدهُ، والجَدْر جمعه جُدْران، والجدار هو الحائط جمعُه جُدْر، وجُدُر.

والحائط هو الجدار وجمعه حيطان، من الفعل حاط، وحوَّط المكان بنى حوله حائطاً، أمَّا السور وهو الحائط يطوف بالمدينة، فمِن سَار وجمعه أسوار وسيران، ويأخذ في الغالب صبغة العلو والطول، أما إذا سَوّرتَ المرأة فقد ألبستها سِواراً.

وفي نفس السياق نجد أن الحجرة، والحاجز، من المفردات القريبة مما سبق من حيث معنى الحجر والحجز والعزل.

وإذا كان الإنسان يحتاج للأسوار فإن ذلك لا يعني أنه يحبها، فهي تشكل عائقاً لحركته، وحريته، وخياله، ودهشته، ولذلك ليس بغريبٍ أن يتوقَ الإنسانُ لمعرفة ما وراء الأسوار، فلطالما كانت الأسوار شاغلةً لفكر المبدعين، محرضةً على الإبداع..

ولعلَّنا نجد في هذه القصيدة الجميلة لمحمود درويش شاهداً على ما نقول:

 

قرِيباً مِنَ السُّورِ، سُورِ المَدِينَةِ، أَمْنَعُ نَفْسِي مِنَ الاعْتِرَافْ
بِأَنِّي رَأَيْتُ الذِينَ سَيَأُتُونَ بَعْدَ قَلِيلٍ، سَيَأتُونَ بَعْدَ قَلِيلْ،
وَيَبْنُونَ أَسْوَارَهُمْ حَوْلَ سُورٍ قَديِمٍ يُحِيطُ بسُورٍ قَدِيمْ.
وَأَنِّي رَأَيْتُ الذِينَ مَضَوْا مِنْ هُنَا، وَمَضَوْا مِنْ هُنَا، بَعْدَمَا
بَنَوْا سُورَهُمْ حَوْلَ سُورٍ قَدِيمٍ يُحِيطُ بسُورٍ قَدِيمْ.
قَرِيباً من السُّورِ

 أَرْسُمُ سِلْسِلَةً مِنْ نُجُومٍ وَدَائِرةً مِنْ نُجُومْ.
وَأَبْحَثُ عَنْ حَاضِرٍ كَانَ، أَوْ حَاضِرٍ كَانَ، أَوْ حاضِرٍ سَيَكُونْ:
أَفِي وُسْعِنَا أَنْ نَكُونَ هُنَا...الآنَ..؟ فِي وُسْعِنَا أَنْ نَكُونْ..؟
وَنَبْنِيَ أَسْوَارَنَا، هَهُنَا... هَهُنَا، حَوْلَ سُورٍ قَدِيمْ..؟

سَأَلْتُ القَصِيدَةَ، فَاغْرَوْرَقَتْ بِالغُيُومْ.

وقد يصلُ الأمر بالشاعر إلى رفض السور والجدار والحصار رفضاً تاماً، كما يفعل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن في قصيدته الجميلة الجديدة على الشعر، والموسيقى السائدة، وقد تجاوزت الأسوار والديار، وأصبحت من أشهر الأغاني العربية:

أرفض المسافةْ
والسورْ.. والبابْ.. والحارسْ
آه أنا الجالسْ

ورا ظهر النهارْ..
ينفض اغبار.. ذكرى
أرفض.. يكون الانتظار.. بكرا
أبسقي عطش قلبي اليابسْ

على اشفاهي ..
بقول أحبك ..
أرفض إني أموت في قلبك
ما درى بموتي أحد.. حتى أنا.

أرفض الصورة.. على الرف البعيدْ
وجهك المحبوس في ورَق وحديدْ
أرفض احساس الحبرْ
أرفض الليل ..الحصارْ
حبنا خلف الجدارْ
آه أنا الجالس ورا ظهر النهارْ
أنفض اغبار ذكرى
أرفض يكون الإنتظارْ.. بكرا

مثل البكا.. حبيبتي تحتاجني.. تحت الظلامْ
ومثل الفرح.. حبيبتي أحتاجها.. وسط الزحامْ
الحب علمها السكوتْ
والحب علمني الكلامْ
أرفض الصمت.. الحوارْ
بيننا.. خلف الجدارْ
أبسقي عطش قلبي اليابسْ ..
على شفاهي.. بقول أحبك
أرفض إني أموت.. أموت في قلبك
ما درى بموتي أحد.. حتى أنا..!

 

وإذا كان سور المدينة يمنع عنها الأعداء، ويحميها من الغرباء، فإن سور السجن يمنع "النزلاء" تلطفاً، أي المساجين حقيقةً من الهروب..

والمساجين فئاتٌ وأنواع، ليس كلهم من المجرمين واللصوص وقطاع الطرق والمهربين والقتلة والإرهابيين والمروجين، فهناك أسرى حروبٍ، وأصحاب قضايا، ومناضلون عبر العالم، لعل من أشهرهم نيلسون مانديلا وغاندي، وعشرات الآلاف من الفلسطينيين والعرب والمسلمين الذين دافعوا عن فلسطين وغيرها من أوطاننا التي خضعت للاستعمار، ومنهم من تجاوز مانديلا في مدة الحبس، وهم أبطالٌ حاربوا الاستعمار الإسرائيلي والتركي والفرنسي والإنجليزي والفارسيى والأمريكي لأوطانهم.

ورغم ذلك، ومن جهةٍ أُخرى، فإنه كلما تفنن رجال الأمن في ابتكار الأسوار والأنظمة الحديثة، تفنن اللصوص والمجرمون في ابتكار طرقٍ جديدةٍ للهروب.. وأحدث ما في ذلك الطرق الإلكترونية التي لا نستطيع إلا أن نقول أنها عبقرية، ربما هي عبقرية العقول المجرمة، أو حتى البريئة حسنة النية، لكسر أسوار وحواجز الحماية عن المواقع والبوابات الإلكترونية الحساسة  للوزارات المهمة والمصارف وغيرها، حتى في الدول النووية الكبرى، وهذا أمر يبعث على الخوف والفزع..

فنشأ " الهكرز" وعباقرة الاختراق الإلكتروني، حتى في الدول الفقيرةِ، والأقل تقدماً في أجهزة التقنية، لا في معرفة التقنية..!

وكل ذلك، قديماً وحديثاً، صار مجالاً وفضاءً بلا أسوارٍ للروائيين والكتاب، وماكينة صناعة الأفلام التي لا تتوقف، فخرجت للعالم، (كل العالم، حيث لم تعد توجد أسوارٌ تمنع الكتاب أو المعلومة) مئات الروايات العالمية المؤثرة، ومئات الأفلام الناجحة الشيقة، وتصدرت أسرار الأسوار أشهر الرويات والأفلام والأخبار..!

ومن أشهر الأسوار في العالم سور الصين العظيم الذي يصل طوله إلى أربعة آلاف وستمائة كيلومتر، وقد ابتناه الصينيون القدماء منذ القرن الرابع قبل الميلاد لحماية بلادهم من الغزاة، وتمت إعادة بنائه وإصلاحه مراراُ، كان أكبرها مع بدء العهد الجديد في الصين عام 1949م. أما اليوم فلم يعد للسور أهمية فعلية سوى للسياح، ودارسي الآثار.

وأسوار القلاع والحصون لدى الحضارات القديمة منذ الإغريق والرومان دلالة على عظمة وقوة تلك الإمبراطوريات، لكن ذلك لم يمنع الجيوش الغازية من إيجاد الحلول لتجاوزها سواء عبر الحصار والتجويع، أو عبر التحايل والخديعة كما في أسطورة حصان طروادة، الحصان الخشبي الذي بناه الإغريق لدخول طروادة بعد حصارٍ دام 10 سنوات، لم يجدِ نفعاً، فتفتق خيالهم: "عن بناء حصان خشبيٍّ ضخم أجوف في ثلاثة أيام، ومُلئَ بالمحاربين الإغريق بقيادة أوديسيوس، أما بقية الجيش فظهر كأنه رحل بينما في الواقع كان يختبئ وراء تيندوس، وقبل الطرواديون الحصان على أنه عرض سلام، قام جاسوس إغريقي، اسمه سينون، بإقناع الطرواديين بأن الحصان هدية، بالرغم من تحذيرات لاكون وكاساندرا، حتى أن هيلين وديفوبوس فحصا الحصان فأمر الملك بإدخاله إلى المدينة في احتفال كبير.".

احتفل الطرواديون برفع الحصار وابتهجوا، وعندما خرج الإغريق من الحصان داخل المدينة في الليل، كان السكان في حالة سكر، ففتح المحاربون الإغريق بوابات المدينة للسماح لبقية الجيش بدخولها، فنهبت المدينة بلا رحمة، وقتل كل الرجال، وأخذ كل النساء والأطفال كعبيد".

 

وسياسياً يكتسب سور أو جدار برلين أهمية خاصة، وضجيجاً إعلامياً أكبر بسبب إزالته، لا بسبب بنائه، وقد قامت ألمانيا الشرقية ومن خلفها الاتحاد السوفييتي بتشييده عام 1961م، فقسم برلين إلى غربية وشرقية، وأصبح يفصل بين معسكرين وفكرتين وحلفين في حقبة الحرب الباردة، ولكنه يقسم قبل ذلك مدينة واحدة، وشعباً واحداً، كما يفعل الاستعمار، في كل زمان ومكان.

وفي عام 1989م بدأت بوادر انهيار الجدار برفع قيود التنقل بين الشطرين فتدافعت الجموع نحو السور في حركة لا تنسى، إلى أن كانت الوحدة الألمانية عام 1990م، ليصبح السور مجرد ذكرى مريرة لفظاعة الحروب، والاحتلال، وما يفعل كل ذلك بالإنسان، كما هو حاصل اليوم بين الكوريتين، من فصل لشعب واحد، وتفريق للسكان والعائلات.

 

وليس ببعيد عن ذلك أقبح الأسوار في العالم، وأكثرها تمييزاً عنصرياً، وهو السور العازل بطول 364 كيلومتراً في مخططه النهائي، وهو السور الذي بنته إسرائيل في في فلسطين، في قلب الضفة الغربية، حيث يقتطع أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية، ويقسم القرى، ويعزل السكان عن أراضيهم، وكأنه لا يكفي الاحتلال والتقسيم والتهجير والإبادة، وكأن أسوار السجون الإسرائيلية، والحواجز، والحدود المصطنعة، والمفارز، والمتاريس لا تكفي، والإبعاد والتهجير لا تكفي لتمزيق هذا الشعب المناضل الصابر وأراضيه..!

ومع تطور الإنسان، تطورت نزعاته العدائية، وتغيرت أساليب حروبه، وأسلحته، وكذلك وسائل دفاعه، فتحولت الأسوار من الحجارة والطين إلى الإسمنت، إلى خليط من كل ذلك مع الأتربة والرمل كما في خط بارليف الإسرائيلي الذي تجاوزه المصريون بجدارة عام 1973م، ثم طورت الأسلاك الشائكة إلى الأسلاك المكهربة، حيث غذيت بشحنات عالية من الكهرباء الصاعقة، ثم دعم كل ذلك بأنياب الكلاب الفاتكة.

 

أمَّا دينياً فهنالك سور الأعراف، وهو سور الجنة، وهو حاجز بين الجنة والنار: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ۚ وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّۢا بِسِيمَىٰهُمْ ۚ وَنَادَوْاْ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ۚ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) 46 الأعراف.

وهنالك حائط البراق، وهو الجدار الغربي للحرم القدسي حيث المسجد الأقصى، ويرتبط بقصة الإسراء والمعراج فيقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم ربط البراق بحلقة في الجدار ليصلي قبل إسرائه، ويعتبر وقفاً إسلامياً. 

 وقد اتخذ اليهود، بتشجيع من الدولة الصهيونية المغتصِبة، وبتسهيل من الدولة العثمانية، فالبريطانية، فالولايات المتحدة أجزاء منه مبكى لهم، فهو لديهم حائط المبكى، بادعاء أنه جزء من هيكل مزعوم، مما يجعلهم يقومون بحفريات تهدد أركان المسجد الأقصى، للتضليل، وللاستيلاء على أراضي وبيوت الفلسطينيين، وتهجيرهم بالترغيب والترهيب، ضمن خطة صهيونية للاستيلاء على القدس كاملةً، وجعلها عاصمة أبدية للكيان الزائف.

ولعلنا نتذكر هنا قصة موسى مع الخضر (عليهما السلام) والجدار:

(فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) ﴿77﴾.

وهنا الشرح: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) ﴿82﴾ الكهف.

وكذلك قصة ذي القرنين عليه السلام مع السد، وهو هنا بمثابة السور لأن القصد من بنائه منع البشر لا الماء: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴿93﴾ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴿94﴾ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴿95﴾ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴿96﴾ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴿97﴾ قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) ﴿98﴾.

 

ومن الجدران التي وجدت رواجاً هائلاً، جدار روجر ووترز، وهو الألبوم الخطير لفرقة بنك فلويد Pink Floyd ، الذي حقق نقلة نوعية في الموسيقى، ثم كان الفيلم، وحقق الفيلم المأخوذ عنه، بعداً سينمائياً جديداً، مع إيرادات خيالية، وكلمات الأغنية الشهيرة "طوبة أخرى في الجدار" لمؤلفها روجر ووترز Roger Waters، تسير ضمن الرفض للسيطرة على عقول الناس بالتعليم التلقيني الذي لا يترك مجالاً للإبداع، ورفض التعليب، كذلك رفض السيطرة على الناس، وتدمير الأرض بالحروب المدمرة، التي تبدأ عادة بالتحريض السياسي والإعلامي، ومعروف عن ووترز رفضه للحروب، وأثر الحرب العالمية الثانية واضح على معظم إنتاجه.   

                                                                                                                          Another Brick in the

Wall 

We don't need no education
We don't need no thought control
No dark sarcasm in the classroom
Teachers leave them kids alone
Hey! Teachers! Leave them kids alone!
All in all it's just another brick in the wall.
All in all you're just another brick in the wall.

 

والمعروف أنه مهما علت أسوار المدارس أو السجون، فإنها لا تستطيع الحجر على عقول مرتاديها، أي أنه لا يمكن تسوير العقول والأفكار، ولا سجن الحقيقة، ولعل في نيلسون مانديلا وغيره من سجناء الرأي والقضايا العادلة أمثلة ناصعة على ذلك، حيث أسسوا من خلف الأسوار حريةَ شعوبهم من الاستعمار والاستعباد.

 

وأكثرُ الأسوار أذىً هي تلك التي يبنيها المتطرفون من كل دينٍ وعقيدة وعرق من كارهي الحياة والناس حول عقول أتباعهم، وسلبهم الإرادة، والقدرة على التفكير والتدبير، حتى يصبحوا قطعاناً وأدواتٍ صماء في أيديهم، يدمرون بها البلاد والعباد، ويعطلون مسيرة الحضارة والحياة.

وهذا هو واقع الإرهاب والإرهابيين في العالم.. وليس أكبر من أذاهم أذى.

 

ومن الأسوار المؤذية الأسوارُ النفسية، وهي أسوارٌ يمكنُ أن تحيط بالمرء، أو قد يحيط بها المرء نفسه، فتشل حركته، وقدرته على عيش حياةٍ طبيعية، وعلى تحقيق التقدم والنجاح، والعجيب أن بعضها قد يتشكل بسبب الشهرة والنجاح كالتوتر والقلق والكآبة، ومن ذلك أنواع متعددة من الخوف، والرهاب أو الفوبيا، وقد تكمن أسرار مسبباتها في مراحل الطفولة المبكرة، أو في الصدمات النفسية الحادة التي تحدث بسبب ضغوط العيش والعمل في حياةٍ أصبحت أكثر تعقيداً، ومن ذلك الحزن الشديد المزمن، لكن أسوار الكآبة السوداء هي الأقسى،  وهي التي قد تضيق فتكبِّل الإنسان تكبيلاً.

 

أما أحدث الجدران، أو الجدر فهو موقع الفيس بوك  Facebook وهو موقع افتراضي يتيح لمن شاء إقامة جدار يعلق عليه صوره ولقطاته، ويكتب في مساحاته سيرته وما يشاء من نتاجه، ليطلع عليه المريدون، كما يطلع هو على نتاجهم، لتصبح من أحدث وسائل التواصل، ونقل المعرفة عبر العالم، وقد نشأ في أمريكا الشمالية، ويتجاوز المشاركون فيه اليوم عدد سكان أمريكا بكثير.

وقد ابتدأ بسيطاً كنادي صداقة في الجامعة، حتى أصبح نادياً للصداقات عبر العالم.


وعلى ذكر الكتابة على الجدران الافتراضية، فقد ارتبطت الجدران الحقيقية بالكتابة والنقوش والتدوين الذي يؤرخ للحضارات كما في جدران الأهرام، والمدن البابلية والآشورية القديمة، وكل حضارات العالم القديم..

وتعتبر الجزيرة العربية، والمملكة العربية السعودية تحديداً كنزاً مفتوحاً للكتابات والنقوش، كان مغيَّباً بحجج واهية، حتى رزقنا الله برؤية 2030، فتمَّ فتح هذه الكنوز العظيمة للعالم، ومن ذلك: جبة وشويمس في حائل، ومدائن صالح في العلا، ونجران أكبر متحف للنقوش الصخرية في العالم في موقع بئر حمى، والحناكية، وغير ذلك كثير مثير، ستبديه لنا الأيام إن شاء الله تعالى..!

أما في العصر الحديث فقد أصبحت الجداريات فناً، وغدت الجدران معرضاً فنياً، وملصقاً إعلانياً، أما في الشوارع الخلفية للعواصم والمدن الكبيرة، الغنية والفقيرة، فهي سبورة للاحتجاجات والمناشدات وصرخات الغضب والاستنكار، ومكاناً مفضلاً لتنفيس الرغبات والميول ليس لدى المراهقين فحسب بل لدى فنانين ناضجين عبر العالم.

وهكذا تكاثرت هذه الجدران الافتراضية، حتى أسرت المجتمعات الكبيرة داخل الأجهزة الصغيرة، وأبعدتها عن التفاعل الدافئ، وبات أفراد الأسرة الواحدة غرباء بين جدران بيوتهم..!

وكلنا يعرف أنه قد بنيت عبر التاريخ أسوارٌ، وأُزيلت أُخرى، ولكن هل نعرف أنه قد قُبِّلَتْ الجدرانُ من قبل..؟!

والجوابُ نعم، طالما بقي عشاقٌ، وعشقٌ لا حدود له، ولا يعترف بالحدود، سواءً أكان عشقاً للأرض أم كان عشقَ المحبين، كما نراه عند مجنون ليلى قيس بن الملوح في هذين البيتين النادرين الجميلين:

أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى

             أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارَا

وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفْنَ قَلبي

            وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارَا

 

ولنا أن نسنتهضَ خيالَنا ونسألَ: هل للجدرانِ أذرع تحضن بها لتشيعَ الدفءَ والأمان..؟!
وهنا يمكنني، عبر شعري، أن أجيب:

نَامَتْ فَأَيْقَظَتِ الْمَكَانْ.

تَبْدُو لِيَ الْجُدْرَانُ،

جُدْرَانُ الزَّمَانِ تُحِيطُهَا

لَكَأَنَّ لِلْجُدْرَانِ أَذْرِعَةً مِنَ الرُّمَّانْ.

مِنْ جُلَّنارٍ مِنْ نُهُوضِ الضَّوْءِ يَدْعُو

يَصْطَفِيهَا بَهْجَةً..
وَيُشِيعُ فِي الْأرْكَانِ أُغْنِيَةَ الْأَمَانْ.

هي دورة العالم والأيام إذاً، جدران وحيطان وأسوار تقام وتستحدث ويُدوَّن عليها، وأخرى تهدم وتندثر وتزول لتصبح أثراً بعد عين..!