«إنْ جئتُ يا وطني هل فيكَ متسعٌ

كي نستريح ويهمي فوقنا مطرُ»

سيدي: منذ أن عرفتك - وكنا صغيرين نلهو في ساحة الشمس، ونمسح عن وجهينا غبار الشوارع الترابية حين نغفو- وأنت تكبرُ لتبقى، وأنا أكبرُ لأفنى. ولكنني معك تعرفتُ على أبعادي وحدودي، وتعودت على أبعادك وحدودك، ونما الحبُّ حارقاً فيَّ لك، ونموتَ مستبقاً عاشقَك.

أعشقك فرداً، وتُشرك في هواي لك من لا يعشقك.

أحلّ أو أرحلُ، وتظل الحضور والجهات.

أصمت أو أفتح نوافذ الكلام، وتظلُّ الكلام الذي يقال ولا يقال.

وأنت الذي إن حللتُ وإن رحلتُ وإن قلتُ أو ما قلتُ سيان لديك أو هكذا يبدو لي، فأنت لا تحدثني إلاّ لماما، وإن عاتبتك تغضب، وغضبك جمرة في القلب، وجمرة في الضمير، وأعاتبك:

«واحرّ قلباه ممن قلبه شبم ومن بحالي وجسمي عنده سقم

مالي أكتم حبا قد برى جسدي وتدعي حبَّ «دفق الخافقِ» الأمم»

دفقُ الخافق أنت أيها الغامض الواضح، النزْرُ الفائض، الداخل الخارجُ، الساكن فيّ، الراحلُ عبري.

يأتيك الفتى، وللفتى مشاغله ومواجعُه، حاملاً قلبه في يديه. يحدثك مرتبكاً، وللحديث أصوله ومنابعه، والحديث تعرفهُ ويحفظه الفتى.

بأية لغةٍ أحدثك.. أية أغنية أغنيك وأنت الأغنية الطفلة على شفة متعبة؟!

بأية لغة أحدثك، أي القصائد أهديك وأنت القصيدة والهدية واللغة؟!

«بين دفء التوحّد بالموت، والأنمل الراجفةْ

بين صوتك والعاصفةْ

طلقةٌ خاطفةْ

إن تجاوزتها.. إن فتحت لها معبراً في دمي

زمني كله ينتمي

وأنا واقفٌ كل أزمنتي واقفةْ.

أيها الوطن المستبدّ بما يهب الحب حدّ الشهادةْ

أإلى الموت أم للولادة

هذه اللحظة النازفةْ؟!

لغتي خائفةْ..»

خائف منك فيك، وخائفٌ منك عليك، وخوفُك منزلةٌ من منازل العشق، وتحت شجرته الكبيرة تبقى السؤال والمسألة: أيُّنا نزع الفتيل؟!

أيُّنا ملّ صاحبه؟!

هم يقولون:

«وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي»

وأنا أحذف هذه ال «لو».

فما بدايته شك، حصوله إمكان.. ومعك لا حاجة للنزاع .. فالواحد لا يتنازع.

وهم يقولون:

«بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام»

وأنا أحذف هذه ال «إنْ» لأنها احتمال، والواقع ينفي الاحتمال.

وهم يقولون:

«ردّني إلى بلادي مع نسائمٍ غوادي»

وأنا أقول: أنت لا تُردّ إلا لما تغادر.. ومعك لا يحدث الافتراق.

لا أحن إليك لأنك لا تغيب ولكنني أحنّ لما يفرُّ من بين أصابعك في زحام المراكب، وفي سباق المسافات الطويلة.

أبحث عن تفرّدك حين يغتال التشابه بنيك: فتفرّدْ.

«إن التشابه للرمال وأنت للأزرق».

وأبحث عن تجاوزك حين تكون الرتابةُ سلمهم السهل للارتقاء: فعلمهم التجاوز.

وأبحث عن قمرك ونجومك في السماء لا في صحن الماء: فاسمُ بهم.

وأبحث عن نخلتك الأولى فأراها واقفة على بعد التفاتةٍ: فالتفتْ.

وأبحث عن الحبِّ فعلمهم الحب.. علمهم الحب.. علمهم الحب.

هم يحسدونني على موتي، وموتي نبعك في ارتحالك نحو جذوة الشمس التي كنا صغيرين نلعبُ في ساحتها.

أتذكر أيها المتمرس خلف قلوبنا، طفولتنا التي ما أكملت سنواتها، وسنواتنا التي ما أكملت فصولها وأيامها؟!

تعلمنا أن السنة أربعة فصول، وكنا ننتظرها كاملة فلا تجيء..

وما زلنا ننتظرها كاملة فلا تجيء

وما زلنا ننتظر..

سيدي: للحديث بقيةٌ، وللسؤال صدى، وللقلب برهة الحياة: معك تكون، وبك تنمو:

«أشجارها تستطيل وتكبو

وثانية تستطيل وتكبو

ولكنها تستطيلُ».

وما بدايته وطنٌ وشعرٌ.. نهايته شعرٌ ووطن، وهذه لك ببوحي وروحي:

إنْ ضاقت الدنيا على سعةِ المنى

أو كشّر الأعداءُ عن نابِ الشّنا

البابُ بابُك ما هَلَلْت مُكبّراً

والبيتُ بيتُك ما حَلَلْت مؤمّنا

والقلبُ قَلبُك فاستضىءْ بسنائهِ

فالساكنُ المسكونُ أنت فمن أنا؟!

يا سيدي يا شهدُ يا وطنَ الجنى

أهديك فارِعةً ونقتسمُ الضّنى

أعطيكَ أيسرُهُ، وأحملُ جُلّهُ

مستبشراً «أوما» وقَال: لعلّنا
****

*المقاطع المقوسة مقتبسة