هي الخيل المسومة، المعقود بنواصيها الخير، والصافنات الجياد، شغلن سيدنا سليمان بحسنهنّ حين عرضنَ عليه حتى توارينَ بالحجاب، فردّهنّ، وطفق مسحاً بسوقهنّ والأعناق. وهي الكريمة النبيلة الأشرف، فلا عجب إن كان أول من ركب الخيل إسماعيل عليه السلام، وهل أشرف من أنْ أقسم بها الله في كتابه الكريم؟
إذاً فهي العاديات الموريات المغيرات، المثيرات للنقع، المتوسطات جموع الأعداء، قال تعالى: ?وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً* فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً* فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً?. نقشنَ الشعرَ العربي قديمه وحديثه بأعرافهنّ وألوانهنّ الصافية، ودرّبنَ الأذنَ العربية على إيقاع حوافرهنّ، وانتزعنَ البطولات والفتوحات بكرّهنّ وفرّهنّ، فلا تكاد تخلو قصيدةٌ عظيمة من فخامتهنّ: فها هو المتنبي يمجّدهنّ في أجمل ما قيل عن الخيل:
وَجُرْداً مَدَدْنَا بَينَ آذانِهَا القَنَا
فَبِتْنَ خِفَافاً يَتّبِعْنَ العَوَالِيَا
تَمَاشَى بأيْدٍ كُلّمَا وَافَتِ الصَّفَا
نَقَشْنَ بهِ صَدرَ البُزَاةِ حَوَافِيَا
وَتَنظُرُ من سُودٍ صَوَادِقَ في الدجى
يَرَينَ بَعيداتِ الشّخُوصِ كما هِيَا
وَتَنْصِبُ للجَرْسِ الخَفِيِّ سَوَامِعاً
يَخَلْنَ مُنَاجَاةَ الضِّير تَنَادِيَا
تُجاذِبُ فُرْسانَ الصّباحِ أعِنّةً
كأنّ على الأعناقِ منْهَا أفَاعِيَا
بعَزْمٍ يَسيرُ الجِسْمُ في السرْجِ راكباً
بهِ وَيَسيرُ القَلبُ في الجسْمِ ماشِيَا
وإنْ صحّت الرواية فإنّ بيته المعروف: الخيل والليل والبيداء تعرفني... هو الذي أعاده لقتال قطاع الطرق عند محاولته الهرب، وذلك بعد أن ذُكّر به حيث قتل.
أمّا امرؤ القيس فيكفيه صدر بيته المكثف الأشهر:
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً
كجلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِما
أمّا في الشعر الحديث فقد أخذت الخيل بعداً آخر، بعداً رمزياً لوصف الوهن والضعف والانكسار والهزيمة، والحال الذي وصلت إليه الأمة، لا للتعبير عن العزة والقوة والانتصار، إلا فيما ندر، وهو الحال الذي وصلت إليه الخيل.
وفي قصيدته البديعة " الخيول " يكفينا الشاعر العربي الأبهى أمل دنقل مؤونة البحث عن أمثلة أخرى، فالخيول التي كانت تعدو وتضبح وتغير وتثير النقع، وتتوسط الجمع، وتتقدم الجيوش:
وهي بعد بطولاتها وأمجادها، لم تعد تُستعاد إلا كذكرى ورمز للتشريف، في ساحات المطارات، مع قرع الطبول!!
لذا صار لزاماً عليها بعد انطلاقاتها المجيدة المشرفة أن تركض بشكل آخر حزين وقاتل:
الفتوحاتُ فى الأرض – مكتوبةٌ بدماءِ الخيولْ
وحدودُ الممالكْ
رسمتها السنابكْ
والركابان : ميزانُ عدلٍ يميلُ مع السيفِ
حيث يميلْ.
تغير وضعها، وتبدل حالها:
اركضي أو قفي الآن .. أيتها الخيلُ:
لستِ المغيرات صبحا
ولا العاديات – كما قيل – ضبحا
ولا خضرةٌ فى طريقك تُمحى
ولا طفل أضحى
إذا ما مررت به ... يتنحَّى.
اركضى كالسلاحف
نحو زوايا المتاحف..
صيرى تماثيلَ من حجرٍ فى الميادين
صيرى أراجيحَ من خشبٍ للصغار – الرياحين
صيرى فوارسَ حلوى بموسمك النبويّ
وللصبية الفقراء حصاناً من الطينِ
صيرى رسوماً .. ووشماً
تجفّ الخطوط به
مثلما جفَّ – فى رئتيك – الصهيلْ!
لم تكن الخيل في زمنها الذهبيّ، كما هي في حاضرها الآن:
" كانت الخيلُ برِّيَّة
تتنفس حريّةً
مثلما يتنفسها الناس
فى ذلك الزمن الذهبيّ النبيلْ".
ثم دار الزمان دورته، فاستسلم ظهرها الذي لم يوطأ، ولانَ جسدها الحر تحت سياط المروّض، وامتثل فمها للّجام، وأضحت الساق مشكولة، وأثقلَ السنبك المعدنيّ حوافرَها، بعد أنْ:
" كانت الخيلُ - فى البدءِ- كالناسِ
بريةً تتراكضُ عبر السهولْ
كانت الخيلُ كالناسِ فى البدءِ
تمتلكُ الشمسَ والعشبَ
والملكوت الظليلْ ".
وهذا الارتباط الوثيق بين الخيل والناس هو المغزى الرئيسي للقصيدة.. هو لبّ القصيدة، لأن ما وقع على الخيل -التي نقلت الناسَ للناسِ عبر المكان- وقع على الناس أيضاً، حين انقسموا عبرها إلى مشاةٍ وركبان، وانحدروا انحدارها، من هزيمةٍ إلى هزيمة، ومن هوان إلى هوان:
" والخيول التى انحدرت نحو هوّة نسيانها
حملتْ معها جيلَ فرسانها
تركت خلفها: دمعةَ الندمِ الأبديّ
وأشباحَ خيلٍ
وأشباهَ فرسانْ
ومشاة يسيرون- حتى النهاية - تحت ظلال الهوانْ ".
وهكذا ظل الشاعر المبدع عبر رصده للتفاصيل، وملاحظاته الدقيقة، وموقفه الثابت الأصيل كالخيل العربية النبيلة الأصيلة، لصيقاً بتربته وقضيته، القضية الأساس التي أعطاها عمره وفنه، منذ بكائه بين يدي زرقاء اليمامة، وحتى آخر ورقة من أوراق غرفته الثامنة، وهو حين يتساءل.. يتساءل بحرقة الرائي المحترق بجمر الواقع، الحالم برفع لعنة الانتظار الطويل:
" ماذا تبقى لكِ الآن؟ ماذا؟!
سوى عرقٍ يتصبّبُ من تعبٍ
يستحيل دنانيرَ من ذهبٍ
في جيوب هواةِ سلالاتك العربيّة
في حلبات المراهنةِ الدائريّة
في نزهة المركبات السياحية المشتهاة
وفي المتعة المشتراة
وفي المرأة الأجنبية تعلوكِ تحت ظلالِ أبى الهولِ
)هذا الذي كسرتْ أنفَهُ لعنةُ الانتظارِ الطويلْ.(
هكذا سارت وصارت الخيل، وهكذا تسير الناس، وهكذا سار أمل دنقل نحو موته، لكن بشكل مختلف لأنه رفع صوته ورايته بالحق فلم يصالح، ولم يصافح، بل دوّن اسمه في صفحات التاريخ بذهب ودم النبل والشرف:
" استدارت – إلى الغربِ – مزولة الوقتْ
صارتِ الخيلُ ناساً تسيرُ إلى هوَّةِ الصمتْ
بينما الناسُ خيلٌ تسيرُ إلى هوَّةِ الموْتْ!!"