هذا الهدوء لي، أنا اصطفيته واتبيته، أسست قواعده بالإيمان، وأثثته بالمفردات، زرعت أركانه وزواياه بالخضرة البكر، وسقفه وامتداداته بالأزرق الصافي، وأضأته بنور الصباح الساحر، أما جدرانه إن سألتِني فليس له جدران، ورغم ذلك تستطيعين رؤية اللوحات المعلقة على جدرانه في تناغم فتّانٍ إن أنتِ أمعنتِ النظر قليلاً، أو أطلقت لخيالك العنان.
هذه الدار داري، ليس لها أبواب، ولا يحرسها بوّاب، لا يعنيني إن كبرت أو صغرت، ما دام لي فيها هذا الركن الذي أسكنه كل صباح أبيض ، مع ورقي الأبيض، وقصائدي البيضاء، يزينه خيالي ووجدي فيتسع ليشرف على تخوم أوطان أحببتها، ترتفع فيه الجبال، وتهبط الأودية، وتنساب الأنهار، فيغدو جنة لا يسكنها كل زوج بهيج فحسب، بل وجوه الأحباب والأصحاب الذين نأوا، أو غادروا، أو ابتنوا أركاناً كركني.

هذه العزلة الملاذ لي، أنا اخترتها، ورضيت بها فاغتنيت، وهي لا تشبه عزلة أخرى، فلي فيها أحباب يلونون أوقاتي، وإما تأخروا شددت رحالي فزرتهم، وهم وإن رأوني وحيداً، ولم يلحظوا ركني وهدوئي، إلا أنه معي هنا وسط صخبهم وجنونهم، دلالهم وفناجين قهوتهم المرة الحالية. هذا الشجر والنخل لي وإن كان لغيري، أنا الذي رويته بحنو عينيّ، وأنا الذي خلعت عليه الخضرة بصفاء روحي، أنا الذي أحببته، وأنا الذي كتبته قصائدَ تبقى، وإن شاخ في مهده، أو داهمته صروف الدهر وبناته.

أما هذه الطيور يا ابنة الطيبة والحنان فاعلمي أنها ليست لي، وإن أحببتها فعلمتها الطيران، والقفز، والمناورة، وهي وإن هاجرت، أو اختفت في أعشاشها تعود لتغرد لي، أو تأتيني بأخبارها، أو لتؤنبني على أخطائي، كما فعل الهدهد قبل حين، فهل تذكرين؟!

إنه ذلك الهدهد الذي عاد ليقيم قرب بيتي، وقد تقبل عذري، بعد أن أستمع لنوحي وبوحي:

فأطلقْ خيالك يا قاتلي العذب

شدّ انتباهي

وإنْ شئت قتلي

وإن شئت عفواً

فمرّ عليّ كثيراً

لتسألَ عن صحتي

أقم قرب بيتي

هناك أقمْ

واستعدْ صفوَ روحي

ومن دون قتلٍ

أعد جذوةً للحياةِ بحكمتك الباهرة.

وكان أنْ رحِمني فغضّ الطرف عن جهلي؛ وذلك لقتلي أحد أبناء سلالته طفلاً، فلم يأخذ بثأره، بل صفح وعفا، وأعطاني فرصة لحياة جديدة، وفسحة لاكتمال قصائد أخرى، إن أراد الله بي خيراً، ولي عمراً.

ولعلك شاهدةٌ، فأنا لا أدعي ملك ما ليس لي، ولكنني لن أعتب إن لم تتذكري، ولن أغضب إن كثر القول بأنني شاعر حالم، أو كاتب واهم، أو إنسان مجنون، فما يهمني بالفعل هو أن يصل خطابي وبياني وشعري، وأنْ أُخرج للناس ما في قلبي من دفء وحب، وما في روحي من عزّة وجمال، وما في ضميري من صدق ونقاء، وما في عقلي من حقيقة وخيال..

تلك هي عزلتي، وقد سألتِني، تلك هي عزلة الجمال.