الضادُ: لسانُ العرب ( 3)
والضادُ في الفرض، وفي الأرض، ما علا منها وما انخفض، وفي العِرض، والعَرض، ويوم العَرض. والضاد في البذل والعطاء: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (245) البقرة. وعلى ذكر القرض، ما أجمل هذا التوصيف القرآني في سورة الكهف: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (17) وهذا ( فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (11)
والضادُ في السّدرِ والطلح!!: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) الواقعة. والطلحُ هنا في الأغلب الموز. وكعلوّ الشجر علوّ التواضع عند العالم والمقتدر ( من تواضعَ لله رفعه..)، ومن أبغض الأخلاق التعالي على الخلق.
وعلى ضفاف الحياة هناك الضحك والبكاء، ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) (43)، (وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) (60) النجم. .. والضحك مرارةٌ لدى المتنبي:
وَكم ذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ
وَلَكِنّهُ ضَحِكٌ كالبُكَا
أما عند أبي العلاء المعري فسفاهة:
ضَحِكنا، وكان الضّحكُ منّا سفاهةً
وحُقّ لسُكّانِ البَسيطةِ أن يَبكُوا
يُحَطّمُنا رَيْبُ الزّمانِ، كأنّنا
زُجاجٌ، ولكن لا يُعادُ له سَبْكُ
وهو لدى بشارة الخوري حالة الشاعر والعاشق
يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا
كعاشقِ خطّ سطراً في الهوى ومحا
أما في التوشيح اليمني: فضحك الأرض بخيراتها، ومنه قصيدة « يقرّب الله» للشاعر أحمد بن حسين المفتي، ومنها هذا الجمال في وصف صنعاء:
« كم يضحكُ الزهرُ فيها / من بكاءِ الغمامةْ / فيا سقاها وطنْ.».
والضادُ مكينة عنيدة مثابرة على وعيٍ في الدحض والنقض والقض والفضّ والرفض والحض، والانتفاض كما يفعل أهلنا في فلسطين، وكما تفعل الشعوب المؤمنة الحية ضد كل مستعمر، والإعراض عن كل ما يسيءُ ويسوء. وفي الاعتراض، وكم يعترض العربُ على قرارات الأمم فترفض اعتراضاتهم، لأن لا حول لهم، ولا قوة تؤيد اعتراضهم، وتفرض قراراتهم من قبلُ فرضا، لأنهم ما اعتبروا من ماضيهم، ولا ذادوا عن حياض الدين والوطن، فضمروا، وضاعت، مما ضاع منهم، القدس، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت، لا ضمنوا الحاضر، ولا فطنوا واحتاطوا لمستقبلهم. وبعيداً عما يحرّض على القهر والبكاء، فإنّ للضاد وضاءةً ونضارةً ولطفاً ورقةً، مما هيأ لها حضوراً مميٌزاً لا تخطئه العين المدربة، ولا الأذن السليمة التي لا تحمل وقرا، ولا القلب الذي لا يضيق على سعةِ الجمال، لدى عباقرة الشعر العربي، في حكمتهم، وفي غزلهم، وخيرُ ما يمثّل ذلك، ويختصرُ فيضه هنا قصيدة « منك الصدود « لرهين المحبسين أبي العلاء المعرّي:
منكَ الصّدودُ ومني بالصّدودِ رِضى
مَن ذا علَيَّ بهذا في هواكَ قَضَى
بيَ منكَ ما لو غَدا بالشمسِ ما طلَعتْ
من الكآبَةِ أوْ بالبَرْقِ ما وَمَضَا
إذا الفَتى ذَمَّ عَيْشاً في شَبيبته
فما يقولُ إذا عصْرُ الشّبابِ مضَى
ِوقد تَعَوّضْتُ من كُلٍّ بمُشْبِهِهِ
فما وَجَدْتُ لأيّامِ الصِّبا عِوَضَا
وقد غَرِضْتُ من الدّنيا فهَلْ زَمَني
مُعْطٍ حَيَاتي لِغِرٍّ بَعْدُ ما غَرِضا
جَرّبْتُ دَهْري وأهلِيه فما تَرَكتْ
ليَ التّجارِبُ في وُدّ امرِئٍ غَرَضا
وليلَةٍ سِرْتُ فيها وابنُ مُزْنَتِها
كَمَيّتٍ عادَ حيّاً بَعْدَما قُبِضا
كأنما هيَ إذْ لاحَتْ كواكِبُها
خَوْدٌ من الزّنج تُجلى وُشّحَتْ خَضَضَا
كأنما النّسْرُ قد قُصّتْ قوادِمُهُ
فالضّعْفُ يَكْسِرُ مِنه كلّما نهَضا
والبَدرُ يحْتَثُّ نحوَ الغَرْبِ أينُقَه
فكلّما خافَ من شمسِ الضّحى ركَضَا
ومَنْهَلٍ تَرِدُ الجَوْزاءُ غَمْرَتَه
إذا السِّماكانِ شطْرَ المغْرِبِ اعترَضَا
وَرَدْتُهُ ونُجومُ اللّيْلِ وانِيَةٌ
تشكو إلى الفجرِ أنْ لمْ تَطعَمِ الغَمَضَا
وهي تفتحُ لنا نافذةً على شعرِ صاحبِه الحديث الشاعر الكبير، الضرير البصير عبد الله البردوني، رحمة الله عليه:
نحنُ غرسُ الإلهِ يحصدُه الله
لماذا تعيثُ فيهِ... يدَانا؟
ما لنا نسبقُ الحِمامَ إلينا
وهو أمضى يداً وأحنى بنَانا؟
لو نفضْنا شرورَنا لرأينا
أوجهَ الخيرِ في الضّياءِ عيَانا
نحن نُبدي عيوبَنا حين نرمي
بالخطايا فلانةً أو فلانا
نحنُ لو لمْ نكنْ أصولَ الخطايا
ما رأينا ظلالَها في سوَانا