الأمرُ ليس كما تظُنُّ ( 2)
« فِي آخِرِ السُّوْقِ القَدِيمَةِ..
شَاعِرٌ
لَمْ تَبْلُغِ الأَصْنَامُ مِنْهُ
فَكَبَّرَا .»
إذاً الأمرُ ليس كما تظنّ، فالقصيدة لدى الشاعر تبدو دانيةً بدفئها وانسيابيتها وغنائيتها، لكنها لا تعطيك ثمارها، إلا بعد قراءاتٍ متأنية، وصبر فلاحٍ خبيرٍ مقتدر، لأنها تلمّحُ ولا تصرّح، تحب ولكنها كفاتنةٍ واثقةٍ بحسنٍ غير مجلوب تُحيلُ ولا تشير، أي أنّ قصيدةَ محمد يعقوب امرأةٌ جمعت العقلَ الجميل والشكل الآسر، فاتحد المضمون العميق مع الجمال الفني، فكان جمالها دافئاً لا سطحيّاً بارداً، اختلط فيها عطر الحبيبة الساحر بعطر الأرض بعطر صاحبها، بأنفاسه وروحه، فعبره وعبر حبيبته ترى الوطن، وعبر الوطن تلمحهما يغنيّان على أرجوحة الحبّ معا، لذلك نجد الإيقاع ممتعا.
نعم هنالك جراح وأسرارُ جراحٍ وقضايا، ولكن هنالك حب، وفأل، ودعاء، ورجاء. هنالك عطشٌ وهنالك ماء، وهنالك رغبةٌ في الحياة والسعادة وتشبث بهما، وهنالك بكاء:
« لِي حِصّةٌ فِي الْمَاءِ
لَكِنْ لَا فَمُ.
ظَمْآنُ
وَالزَّمَنُ العَصِيُّ يُتَمْتِمُ.
أَتْلُو
عَلَى الرَّمْلِ البَعِيْدِ حِكَايَتِي
مَنْ قَالَ:
إِنَّ الرَّيْحَ لَا تَتَكَلَّمُ.
لَمْ أَحْتَمِلْ جُوْعَ السَّفِيْنَةِ
خَرْقُهَا لُغَةٌ تَلُمُّ الجَائِعِينَ
وَتَرْحَمُ.»
وإن كان بالإمكان وصف القصائد بالنبل، فقصيدة شاعرنا المبدع نبيلة،
وديوانهُ وطن، والوطن فيه بكل جهاته روح الشاعر ولغته وبوحه الشجيّ:
« بَيْنِي وَبَينَ الأَرْضِ
مَعْنَى آخَرٌ
أَسْقِيْهِ مِنْ شَغَفَي
وَعَنْهُ أُتَرْجِمُ.
مِنْ أَيْنَ يَا وَطَنِي..
أُيَمِّمُ وُجْهَةً
وَأَنَا عَلَى كُلِّ الجِهَاتِ مُتَيَّمُ.
فِي الضِّفَّتِينِ أَنَا..
وَمَاءُ سَرِيْرَتِي
مَا لَا أُسِرُّ بِهِ، وَمَا لَا أَكْتُمُ.
قَدَرِي هَوَاكَ ..
فَسَوِّ صَفَّ غِوَايَتِي
إِنَّ الأَغَانِي لِلأَغَانِي سُلَّمُ.»
أما من السلّم الذي أوصلني لشعر محمد العالي، فأرى أن الشاعر الدافئ قد حقق في ديوانه الرابع هذا مراده، غنى ووصل إلينا وأطربنا، وأثار أسئلته وأدهشنا، وارتقى فدعانا لنتأمله، وهو بكل ذلك يضيف جمالاً لذائقتنا، ولمكتبتنا العربية، وكلي أملٌ أن ينال هذا الديوان جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب، وهو جديرٌ بها.
فنحن نلحظُ عمق وحنكة الشاعر، وذكاءه الشعري وفطنته، وذلك عبر إيحاءاته وإيماءاته، كما نلحظ موهبته ومهاراته اللغوية والفنية عبر إيقاعه وغنائه العذب الصافي.
هذا الشعر السهل الممتنع نادرٌ هذه الأيام، فكثير من الشعراء أغرقوا في التجريب، وفي الغالب دون أدوات مناسبة، حتى هربت القصيدة من بين أصابعهم، كما أغرقوا في التغريب، وملاحقة شعراء الدهشةِ المصطنعة في العواصم البعيدة حتى أصبحوا نسخاً مكررة لهم، أو تقليد ترجمات باردة لأعمال فتّقتها حياة وتجارب لا تمت لواقعنا بصلة، بل هي في ذاتها انقلاب على واقعها أو تجريد له، وهم في الغالب لم يهضموا تلك التجارب بوعي وحصانةٍ ليشكلوا نسيجهم الخاص.
وهنا، وأنا أختمُ حديثي، يقفز في شقاوةِ طفلٍ سؤالٌ ظللتُ أتجنبهُ زمناً:
لِمَ يأنف عدد كبير من المبدعين من الكتابةِ عن التجارب الجديدة، أو حتى عن مجايليهم، وأقرانهم، وأنا لا اقصد النقاد هنا، بل أعني الشعراء وكتاب السرد، والتشكيلين وغيرهم؟ لم لا ينشرون ويشيعون الجمال؟!
هل يرون أنهم أكبر من ذلك، أم يرون أنّ في ذلك انتقاصاً لمكانةٍ هم وضعوا أنفسهم فيها، وأرائك يظنون أنهم يتسيدون من عليائها المشهد الإبداعي؟!
أو لعلّ من الأجدى أنْ أختمُ بهذا الحسن الشعري لمحمدنا كي لا أفسدَ الجمال الذي بدأت:
« عَنْ أَوَّلِ الحُزْنِ
في مِعْرَاجِ وَرْدَتِهِ
وَعَنْ تَآويْلِ مَنْ ظَنُّوا بِغَيْبَتِهِ.
عَنْ لَذَّةِ الْمَحْوِ،
تَنْأَى كُلَّمَا اكْتَمَلْتْ
وَعَنْ يَدِ الغَيْمِ
عَنْ صَلْصَالِ حِكْمَتِهِ.
مَا زَالَ في الصَّفْحَةِ البَيْضَاءِ مُتَّكَأٌ
يَهْفُو لأَعْشَاشِهِ
عُصْفُوْرُ نَكْهَتِهِ.
يُطَيِّرُ العُمْرَ
مِنْ مِرْآتِهِ.. أُفَقَاً
فَلَيْسَ أَرْحَبُ مِنْ مِرْآةِ عُزْلَتِهِ.»
*جميع المقاطع الشعرية للشاعر محمد إبراهيم يعقوب.