يقوم نفر من مستسهلي الإبداع وغواة الدهشة المصطنعة بسحب المشهد الثقافي اليوم بقوة إلى عصور الانحطاط وسنفترض حسن النية، ونقول عن جهل، وانسياق أعمى خلف رموز تافهة صنعتها مقولات فارغة، أو ظروف وظفوها لمصالحهم الضيقة: كالمراكز، والاغتراب.. والنفي.. والاخير لم يكن دوماً قَسْريا، بل كان في الغالب سلّما لاستجداء البطولات الوهمية.
ومتسولو الإبداع الجديد اليوم يشبهون أكثر ما يشبهون ناظمي الأمس، أي أن "إبداعهم" يقودنا إلى نقطة الصفر مرة أخرى محطمين ومطفئين بذلك جهود وإبداعات وحرائق أجيال من الكبار في مختلف المجالات الابداعية.
وقد تناسى معظمهم ان تلك الابداعات الكبيرة لم تأت من (فراغ النص، وبياض النص، وتفجير النص، وتماهي النصوص، ومراعي النص). وإنما جاءت مبشرة، أو متفاعلة مع ثورات كبرى ضدّ الاستعمار والتخلفُّ والجهل في العالم العربي.
كما جاءت سابقة أو متواكبة مع أحداث وتغيرات وثورات كبرى على الصعيد العالمي والإنشائي.
واستطاعت ان تثمر عندما تجذّرت آلاف الأعمال الكبيرة الخالدة والمؤثرة، والمتجاوزة، التي تضاهي بل تتفوق على كثير ممّا يقلّد اليوم للتباهي، والادهاش الذي ينمُّ عن سذاجة وفقر في الأدوات، والحسّ، والموهبة.
كما ينمٍّ في كثير من الأحيان عن انقطاعٍ كاملٍ عن الواقع، وجهلٍ تامٍّ بالمتغيرات، وانفصامٍ حادٍّ. بينما ينمُّ في أحيان أخرى عن تقصُّدٍ لإدارة الظهر عن القيم والمبادئ، وكل مايتعّلق بجراح الأمة، والانسياق كالغربان وراء الغرب في قتلِ الروح، واللغة، وكل ما أبدعته الحضارة العربيّة الاسلاميّة.
إذاً عن عمدٍ أو عن جهلٍ أو عن سهوٍ أخذت قافلةُ الغرب هذه تسيرُ نحو جبل يعصمها لتطلق سهاماً قاتلة نحو صدر الإبداع العربي مستترةً بمقولاتٍ أصبحت مكشوفةً ومضحكةً رغم سمومها كالتجاوز، واللحاق بالركب، والتماهي مع الآخر، والإدهاش حتى أصبحت ذابلة ممجوجة.
وقام هؤلاء بتفتيت القيم الثقافية، وتجريد الإبداع من كل هدف ألاّ المتعة الخاصة والادهاش المضني محتجِّين بمقولات تعود كلها لتصب في مقولة "الفن للفن".
وأصبح من العيب والعار لدى بعضهم ان تكتب حرفاً واحداً عن قضية أو قيمة.
إلى أن أصبحت الثقافة بكاملها ثقافة مسيار..!!
وثقافة متع زائلة، ونخبٍ أضاعت مشيتها.
ونحن هنا نعرف ماذا سيقولون: وسوف نبتدرهم بأمرين:
الأول: ان الجِدّة والدهشة والتحديث والتجاوز والفن العالي القافز فوق الأسوار، والوصول بالمفردة إلى أقصى طاقاتها، والإحالة لا الإشارة، والغموض الرفيع..
وكل ما يتعلق بالتحديث والتجاوز مطلب وغاية ومنحى، نذود عنه، ونحاول منذ عمرٍ تحقيقهَ عبر القصيدة، أو عبر النوافذ التي فتحناها خلال ربع قرن من المثابرة، لايصال رسالتنا النبيلة.
إذاً لن يستطيع أحد ان يزايد علينا هنا.
الثاني: ان التنصُّل من القضايا الكبرى أو تذويبها وتجريد الأعمال الفنية من كل إحالة أو إشارة إلى هموم الإنسان العربي وتطلعاته لا يقود مطلقاً إلى العالمية أو وهمها.
ولعل الجميع يعرف ان طريق العالمية لنا ينبع من هنا، من المحلية والعربية.
وإن نسيان هؤلاء القتلى والأسرى والجرحى والأوطان السليبة والأسيرة جريمة لا تغتفر ومسألة لايعاد فيها النظر.
أما المسألة التي فيها نظر فهي المسألة الإبداعية، ومنها سيل الكلام الفارغ البارد القاتل الذي يُفرض علينا من الخونة والبائعين، والمقلّدين عن عمد أو سهو أو جهل.