والعينُ تلمع، وتشع من عيون العربية والعرب، وقد كانت تعلو معهم، فترفرف أعلامها خفاقة عالية عبر شعرهم وبيانهم وعلومهم من عذوق نخيل المدينة إلى كوفة وبصرة العراق إلى آخر ما عبرته خيول عمرو بن العاص وعبد الرحمن الداخل غرباً، ومن أعالي جبال الشمال إلى جبال صنعاء وسواحل عدن، ولكنها اليوم تذرفُ الدمع عليهم، لأنهم يعرفون مصادر عللهم، لكنهم غير قادرين، أو غير راغبين في علاجها، حين تركوا العنان لغيرهم،
وعادوا لعاداتهم الجاهلية، وأضحت معاركهم لا على الأعداء، بل على أنفسهم في النهايةِ حين عادى بعضهم بعضاً. وتتجلّى العين بصوتها العميق عبر كل القرآن الكريم كما في عبس والنازعات والماعون، ولكنها في المعارج تتسيّد المشهد والإيقاع، فتسرق السمع والعين بحركتها:
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}.
{كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}.
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}.
ورغم صعوبة نطق العين، إلاّ أنّ لها جمالاً إيقاعياً وموسيقياً خاصاً، بصوتها وصداها المتعالي من القاع إلى الشراع لدى العرب، فنراها مشعة من عيون الشعراء والمبدعين، ونشعر بلوعتها لدى العشاق منهم، وخير من يمثل ذلك الشعراء العذريون. فعشقهم يجلب العبرات والدموع، ويحرق ما بين الضلوع، حيث يتسيّد الصد والنأي والبعد، والقطع لا الوصل، المشهد الدرامي، فقدموا لنا عبر رحلة المعاناة أنهاراً من جمال الشعر العربي في الحب والغزل، فنهلنا وعللنا، ومنها هذا العطر لمجنون ليلى:
كأنَّ القلبَ ليلةَ قِيلَ يُغدى
بليـلى العامريةِ أو يُراحُ
قطاةٌ عزّها شَرَكٌ فباتت
تجاذبهُ وقد علقَ الجناحُ.
وجمال جنونه هنا حتى في حسده بهذا التكرار غير الممل:
أَرى الإزارَ على ليلى فأحسدهُ
إنَّ الإزارَ على ما ضَمَّ مَحْسودُ.
وهنا اعتراف عذريٍّ آخر هو جميل بثينة، جميل بن معمر:
إذا ما نظمتُ الشَّعر في غير ذِكرها
أَبى وأبيها أن يُطاوِعني شعري.
أما بشار بن برد فله تعليلاته الخاصة في الدفاع عن عشقه،
وما هو بالعذري، ولكنه الهوى يخرج أرق وأجمل ما يعتمل في قلوب العشاق والشعراء:
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللبِّ
وما تبصر العينان في موضع الهوى
ولا تسـمعُ الأذنـانِ إلاَّ من القلبِ.
أما الوأواء الدمشقي محمد بن أحمد العناني من شعراء العصر العباسي توفي 385هـ:
عَادَيْتُ مِنْ أَجْلِها رُوحي وَقَدْ عَلِمَتْ
رُوحي بِأَنِّي أُعَادِي مَنْ يُعادِيها
وَلَسْتُ أَبْكي بِدَمْعِي حِينَ تُبْعِدُني
لَكِنْ بِرُوحي عَلَيْها حِينَ أَبْكِيها
للَّهِ إِنْسانُ طَرْفي حِينَ صَارَ بِها
عَبْدي كَما صِرْتُ فِيها عَبْدَ حُبِّيها
ولا يمكن أن نمرّ على العين دون أن نتذكر رائعة الصمة القشيري:
حَنَنتَ إِلى رَيّا وَنَفسُكَ باعَدَتْ
مَزارَكَ مِن رَيّا وَشِعباكَما مَعا
فَما حَسَنٌ أَنْ تَأتِيَ الأَمرَ طائِعاً
وَتَجزَعَ أَن داعي الصَبابَةِ أَسمَعا
قفا ودعا نجداً ومن حلّ بالحمى
وقلّ لنجدٍ عندنا أنْ يُودّعا
وليست عشياتُ الحمى برواجعٍ
عليك ولكنْ خلّ عينيك تدمعا
ولما رأيت البشرَ أعرض دوننا
وحالتْ بنات الشوق يحننّ نزّعا
بكتْ عينيَ اليمنى فلما زجرتها
عن الجهلِ بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكُرُ أيَّامَ الحمَى ثمَّ أنْثَني
على كبِدِي من خشيةٍ أنْ تصدَّعا
بنفسيَ تلك الأرضِ ما أطيبّ الرّبا
وما أجملَ المصطافَ والمتربعا
وهي ترد «بكت عيني اليسرى»، لكن يبدو أن اليمنى أصح كما يرد في ديوان الحماسة في هذا التحليل الجميل، وفيه تظهر روعة العين أيضاً:
«وإنما قال (بكت عيني اليمنى) لأنه كان أعور ممتعاً بعينه اليسرى. والعين العوراء لا تدمع. فيقول: بكت عيني الصحيحة؛ فاجتهدت في زجرها عن تعاطي الجهل بعد أن كنت تحلمت وتركت الصبي، فلما تكلفت ذاك لها أقبلت العوراء تدمع معها وتبكي. ونبه بهذا على عصيان النفس والقلب، وقلة ائتمارهما له، وأنهما إذا زجرا وردا عن مواردهما زادا على المنكر منهما.»
لله ما أجمل لغتنا وبياننا!!