الخاء: الخيرُ والخلودُ والسخاء!! ( 2)

 

أمّا النخلةُ الطيّبة، وأعرفُ ولعكِ بالنخيل، فربما كانت الوحيدة التي لم تتغير ملامحها، ولا اعتلّتْ صحتها، حتى وإن اختلّتْ علاقتنا بها، ونظرتنا إليها، فهي ما زالت تحافظ على قيمتها المادية والاعتبارية رغم شعورها بالغربة بيننا، ورغم الآلاف التي أحرقتها قنابل الغرب في دار الخلافة في الشرق، أو هُجّرَ أهلُها فماتت كمداً.

ولا أخفيكِ هنا، أنه بالأمس، خامرني الشك في قدراتي العقلية والسمعية، ذلك أنني سمعتُ جاراتي النخلات يسألنني سؤالاً مرَّاً، لم يبدّد مرارته من كثرةِ تكراره وترديده على لساني غير سكّرهنّ، حين قلن: ما بالكم أيها العرب تسعون من خرابٍ إلى خراب، ومن عزةٍ ووحدةٍ إلى خضوعٍ وخنوعٍ وتمزقٍ وأنتم أبناء عمومةٍ وخؤولة، خارتْ قواكم، وخفت صوت الحق والخير والحب فيكم، وخمدت ناركم، وبتم في مخمصة بعد غنى، وبادت بعض دياركم وخلت، فهي خاويةٌ على عروشها؟! مشيراتٍ إلى الخريف العربي، وصعود ظاهرة العصابات المسلحة ونسخها الكربونية المنتشرة في معظم الأوطان اليوم، تلك التي تعيش على القتل والدّمِ والهدمِ والتجزئة والتخريب، حتى غدت البلدان الحيّة كالأطلال.. لكن الأطلال اليوم ليست كأطلالِ خولة طرفة بن العبد:

لِخَـوْلَةَ أطْـلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَـدِ

تلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ

فهي مقيمةٌ فينا، وفي مدننا المعمورة، نحن الذين لم نرحل، بل هُجّر الملايين من أهلنا، حين نالت من جلّ أوطاننا يدُ التدمير، وحولت كل ما بنته السواعد والعقول الجميلة إلى أطلال، فعم الخراب، وصاح الغراب.. فبكيناها، وسنبكيها، ونبكي بقيّتها ما تبقّى من العمرِ دمَاً، كما بكت الخنساءُ صخراً، إن لم نلتفت إليها، وإلى شباب ومستقبل الأمة:

يُذَكّرُني طُلُوعُ الشمسِ صَخراً

وأذكرُهُ لكلّ غُروبِ شَمْسِ.

ولَوْلا كَثرَةُ الباكينَ حَوْلي

على إخوانهمْ لقتلتُ نفسي.

وقد حدث كل ذلك، ويحدث، بفعل خلايا الموت والرعب، أما الخلية في فطرتها فقيمة خير، كخلايا الجسم الحميدة، وخلايا النحل، أما خلايا القتل السرطانية، فهي خلايا الإرهاب والعصابات المسلحة، حتى النائمة منها، فهي أشد فتكاً عندما تؤمر بالاستيقاظ وقتل العباد والبلاد، وفرض التهجير والرعب والخوف، بدلاً من الاستقرار والأمن، وكأن المؤلبين والمخربين قد أقسموا أن لا يتبقى لنا تاريخٌ ولا هويةٌ ولا خريطة.. وأن نكون من سكان الخيام والمخيمات إلى الأبد، وأن لا يلطخوا صفحاتنا البيضاء بدم الغدر فحسب، بل بوصمة العار والخزي.

وتستخدم هذه الخلايا في تحقيق رعبها ما تؤمنه لها أجهزة المخابرات من عتاد، حسب تقارير الخبراء الدوليين، وما تستخلصه من مستودعات الدول التي تدمرها من أسلحة وذخائر، والذخائر في مخيلتنا العربية خير ومعرفة، ومما يدهشني أيضاً وصفُ الذخيرةِ عسكرياً بالحيّة، فيقولون في وصف التدريب أنه استخدمت فيه الذخيرة الحية، ويُعنى بذلك الذخائر الفاتكة المميتة.

ومن الأخطار المحدقة بالمجتمعات اليوم سوء استخدام الهواتف الخلوية الذكية، مع خدر في العقول، وخلل في فهم الحرية والخصوصية، وغياب للأخلاق السوية، حين تُختصر الحياة بكل تناقضاتها في علبة صغيرة بحجم الكف، ويُجلب العالم بخيره وشره، والكلام بطيبه وخبيثه، وقد طغى خبيثُه على طيبه عبر وسائل الاتصال اليوم، لينتهي بين أيدي المخنوقين المحجوبين عن الحياة بضغطة زر، فخرّوا عليها صمّاً وعميانا، لا يخشون الله، ولا يخافون لومة لائمٍ أو رقيب، هؤلاء الذين لا يميزون الحق من الباطل، ولا الخطأ من الصواب، فتاهت خطاهم، وقد كان الأولى تعليمهم وتأهيلهم للحياة، قبل زجهم في سجون التناقضات، وخلل التفسيرات والتبريرات دون خبرةٍ أو علم، وإملاءات الآخرين من شياطين الإنس ( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا)، وحتى لا يقولوا يوماً

( يا ويلتي ليتني لمْ أتخذْ فلاناً خليلا)، ويا له من خسران، خسارة أجيالٍ، وخسارة أوطان. ونحن نعلم أن الخيانة موغلة في القدم، ولتلطيفها وتمريرها أحياناً يقولون إن الحرب خدعة، وهنالك خيانةٌ حتى لدى العشاق:

أنتَ الذي حلّفْتني وحلفتَ لي

وحلفتَ أنك لا تخون فخنتني

ولكن هل كانت الخيانةُ مستفحلة كما هي بيننا اليوم، كما كشفتها التغيرات والحروب المفروضة علينا في منطقتنا كتفرّع وامتداد لحربنا الطويلة مع الصهاينة، والحاخامات المنظرين لهم، المانحيهم صكوك القتل والإبادة، حيث لا جدير بالحياة غير شعب الله المختار، ولا مكان في الشرق، إلا لخنازير السبت؟!

.واليهود مشهورون بالبخل، ألم يقولوا عبر خستهم إنّ يدَ الله مغلولة، غُلت أيديهم، أما قرآننا فقد أثنى على السخاء والبذل والعطاء وحذر من البخل، وهو مستنكر مستهجن مذموم في أخلاق وأدب وشعر العرب، فهذا بشار بن برد يميزهما خير تمييز:

«ومَنَّيْتِنَا جوداً وفيكِ تثاقلٌ

وشَتّان أهلُ الجُودِ والبُخَلاءُ.

على وجهِ معروفِ الكريمِ بشاشةٌ

ولَيسَ لِمعرُوفِ البخِيلِ بَهَاءُ»

وهو كذلك مادة ثرية للسخرية كما هو لدى بخلاء الجاحظ، وأبي نواس:

«رأيتُ الفضلَ مكتئبا

يناغي الخبزَ والسّمكا

فقطّبَ حين أبصرني

ونكّس رأسَهُ وبكـى

فلمّـا أنْ حلفـتُ لهُ

بأنّي صائـمٌ ضحـكا»

أما نظرة المتنبي للبخل فمختلفةٌ هنا:

بَليتُ بِلى الأطْلالِ إنْ لمْ أقِفْ بها

وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُّرْبِ خاتمُهْ.