العين العاشقة (4)
«تَعَاظمَنِي ذنبي فَلَمَّا قَرنْتهُ
بِعَفْوكَ رَبي كَانَ عَفْوكَ أَعْظَما»
ولا تكمن قوة العين في العيون والعشق والشعر فحسب بل في مكونات الحياة والتطور الأساسية، وفي عبور الرحلة بسلام إلى الآخرة، والفوز بها، وذلك عبر ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات: العقل والعلم والعمل، ونجدها مترابطة متكاملة - كما ذكرنا في حرف اللام - في الآية الأخيرة من سورة ( العصر) الكريمة على قصرها: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. وتفسيرها: « العلم به، والعمل به، وتعليمه والتواصي به، والصبر على كل ذلك.»، وهنا قمة العلم، وقمة التكثيف في البيان.
والعلم سلاحٌ ذو حدين، فهو قد يكون نعمةً وقد تنحدر أخلاق حامليه أو من يوجهونه فيكون نقمة، ومن نعمه التطور وخدمة البشرية وتعليم البشر لا تعليبهم بالنظريات، وعلاجهم، والعدل في التعاملات، ومن نقمه صناعة الرعب والسلاح والحروب بكافة مسمياتها العسكرية والإعلامية والاقتصادية، وصولاً إلى حروب الماء والتقنية، والعنف والإرهاب والإرهاب المضاد الذي نعيش.
والعين في الرعية و (كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)، وفي المعيّة، وكل قرينٍ بالمقارَن يقتدي، وفي العلو، وفي القاع، وفي العمق كالإيمان العميق ومنه الهدى، وفي الضياع.
وقد تضل وتضيع أمم وشعوب ويهتدي أفراد، وكذلك تضيع دول وعواصم ومدن، والضياع حالة وجودية وإنسانية، وهي تقطر مرارة وأسى هنا عند عبدالله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، ويلقب بالعرجي نسبة لموضع بمكة، أحب، أو تغزل بجيداء، فعذبه وسجنه أهلها إلى أن مات في سجنه:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليومِ كريهةٍ وسدادِ ثغرِ
وخلوني ومعترك المنايا
وقد شرعوا أسنّتهمْ لنحرِي
كأنّي لم أكن فيهم وسيطا
ولم تكُ نسبتي في آلِ عمْرِو
والعين تكون في الفعل ونقيضه، فهي في أرفع الأفعال وفي أوضعها، فاختر لنفسك موضعها.
وهي كذلك في العبادات والطاعات والعظات، وهي في المعاصي والعيوب والعار.
ولا يحسن الناس اليوم لغتهم العربية، ولا يلتفتون إلى أبسط قواعدها وجمالياتها، فهم لا يفرقون مثلاً بين عُمَر، وعَمْرو، بين الخليفة العادل عمَر بن الخطاب رضوان الله عليه، وكذلك الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وبين القائد العربي العبقري وأدهى العرب في عصره، أحد قادة معركة اليرموك، وفاتح مصر عمْرو بن العاص رضي الله عنه. ومن ما أجمل ما في الأخلاق العفو والصفح، والعفو عند المقدرة، والعفو في اللسان: « في أَسماءِ الله تعالى العَفُوُّ وهو فَعُولٌ من العَفْوِ وهو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقابِ عليه وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس وهو من أَبْنِية المُبالَغةِ يقال عَفَا يَعْفُو عَفْواً فهو عافٍ وعَفُوٌّ قال الليث العَفْوُ عَفْوُ اللهِ عز وجل عن خَلْقِه والله تعالى العَفُوُّ الغَفُور وكلُّ من اسْتحقَّ عُقُوبةً فَتَرَكْتَها فقد عَفَوْتَ عنه، قال ابن الأَنباري في قوله تعالى عَفَا الله عنكَ لمَ أَذِنْتَ لهُم مَحا اللهُ عنكَ مأْخوذ من قولهم عفَت الرياحُ الآثارَ إِذا دَرَسَتْها ومَحَتْها».
يقول الإمام الشافعي:
ولما قسا قلبي وضاقتْ مذاهبي
جعلتُ الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفوٍ عن الذنب لم تزل
تجود وتعفو منةً وتكرّما
فلولاك لم يصمد لإبليس عابدٌ
فكيف وقد أغوى صفيّكَ آدما
فلله درّ العارف الندبَ أنه
تفيضً لفرطِ الوجدِ أجفانُه دما
ويرد العفو في القرآن الكريم في مواضع متعددة بأكثر من معنى:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف.
وفي البقرة الآية 178: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (178) سورة البقرة
وفي البقرة أيضا الآية 237 ( إِلاَّ أَنْ يَعْفُون أَو يَعْفُوَ الذي بيده عُقْدَة النِّكاح).
وفي التوبة يخاطب الله سبحانه وتعالى رسوله نبي الرحمةِ محمد العربي الأمين صلوات الله وسلامه عليه بأرق خطاب وعتاب {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 43.
والعَفْوُ المَعْروف والعَفْوُ الفضلُ.
يقول حسان بن ثابت:
خُذْ ما أَتى منهمُ عَفْواً فإن مَنَعُوا
فلا يَكُنْ هَمَّكَ الشيءُ الذي مَنَعُوا
ويقول الأعشى:
تطوفُ العُفاةُ بأَبوابِه
كطَوْفِ النصارى ببَيْتِ الوَثنْ.
وكما خص الله المسلمين بأنّ الأرض لهم مسجد، وبانتظام صفوفهم في الصلاة كانتظام صفوف الملائكة، فقد خصهم بالعفو عن القاتل، وفي اللسان: « قال ابن سيده كان الناسُ من سائِر الأُمَمِ يَقْتُلون الواحدَ بالواحدِ فجعل الله لنا نحنُ العَفْوَ عَمَّن قتل إِن شِئْناه».
وقد تعمدت التركيز على العفو تأكيداً على أن ديننا دين رحمة لا إرهاب.
فيا أهلي في أوطاني ( ارحموا من في الأرضِ يرحمكم من في السماء).