الكتاب: خديجة (شعر)
الكاتب: محمد جبر الحربي
الناشر: دار الأمير ،  بيروت
الطبعة الأولى 1997
قراءة: محمَّد حَدَّاد


يقول ت• س• إليوت: "إن الشعر يجعل الناس يرون العالم أو جزءاً من هذا العالم من جديد"!•
تُرى هل استطاع الشاعر محمد جبر الحربي أن يرينا العالم من جديد، ونحن نتصفح مجموعته الشعرية (خديجة(
أجل•• فبين الغنائية وفرادة الجملة الشعرية وخلق الجماليات التشكيلية وتوليد الصور التي لا تخلو من الجدة والابتكار يأخذنا الحربي في (خديجة) التي تجاوزت ذات الشاعر لتشكل همّاً جمعيّاً هادئاً حيناً وصاخباً بهدوء أحياناً، بلا افتعالات وتأثيرات خارجية تنساب ذات الشاعر بين المرئي والمحسوس لتتواصل وتخلق في ذواتنا مانحة التأثر والتأثير ، بخيال تصويري ابتكاري ، على الروح والعواطف لأن الخيال هو "اللغة التصويرية للفكر" على حد تعبير كولردج•
ومن هنا كان الشعر الرؤية التي تتخلّق وتتمرّد لتفضي بنا إلى عالم، وجسور أمينة لوعي الذات:
"البلاد البعيدة والأغنياتْ
وجحيم الجهاتْ
وفتى ضاربٌ في القصيدة
مستأصلاً ما يخطّ النحاةّ
لم يمت رغم قتل الحياة
وجهل السفائن
لكنّما قيل ماتْ "•
(شهيد)  9
جاءت (خديجة) في مائة واثنتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط، وضمّت أربعاً وثلاثين قصيدة تراوحت بين المقطوعة الشعرية القصيرة ذات الدفقة الشعرية الواحدة والرؤيا المكتملة، وبين القصيدة الطويلة المفتوحة بجملها الشعرية الطويلة وصورها التركيبية المعقدة والبسيطة، ذات الرؤى المتعددة الزوايا•
قصائد المجموعة اختارها الشاعر بعناية ورويّة فكانت نخبة منتقاة من أشعار كتبها الشاعر خلال العشرة أعوام الأخيرة وانحصرت بين عامي (83 - 93) ولم يرتبها بحسب تواريخها بل جاءت حسب الدفء الشعري لديه وقرب القصيدة من نفسه، وإن كان الهم القومي والإنساني، واليومي، وقسوة المدن، يحتل القسم الأول منها، والغربة والهمّ الشعري والمقاربات الوجدانية والسوداوية وعذابات المبدعين تحتل القسم الثاني على تداخل فيما بينهما•
هذه القصائد التي تدل على نضج الشاعر ومحاولة رسم (شكله) الشعري وغرس ظله في صحراء الشعر المعاصر• وهو الشاب المبدع الذي شارك في (مهرجان الأمة الشعري الأول للشباب) في بغداد عام 1984م هذا المهرجان الذي امتد عشرة أيام في نيسان من ذلك العام وشاركت فيه خمس عشرة دولة من بينها المملكة العربية السعودية إلى جانب عدد من المفكرين والمستشرقين والشعراء من أسبانيا وفرنسا وإنجلترا وشارك من المملكة آنذاك الشعراء عبدالله الصيخان، محمد الثبيتي، ومحمد جبر الحربي، حيث ألقى الحربي في الأمسية الرابعة للشعر (خديجة) المنشورة في هذه المجموعة والتي حملت اسم المجموعة الشعرية لحرارتها الإبداعية ولدفئها الشعري ولفرادة جملها ولقربها من ذات الشاعر وكأنها جزء من حسّه الإنساني وزفرة من وجدانه العميق•
كانت (خديجة) وقد بلغت ما بلغت من الحرارة والصدق مدى واسعاً جعل المستشرق الفرنسي على قناعة لترجمتها إلى الفرنسية إلى جانب مقطع من قصيدة (الخروج من دائرة الحزن) الذي نشر بصحيفة (مهرجان االأمة(.
(خديجة) هذه محور المجموعة وبؤرة الصراع الشعري ومركز دائرة (الذات) التي تتوسع شيئاً فشيئاً أشبه بالدوائر من الذات إلى الآخر، إلى الناس جميعاً لتنتهي بانبثاق الحلم والانفتاح على مطلق (خديجة) للدخول إلى عالمها حيث الدفء والحب والأمان• بقي أن نقول، إن الشاعر محمد جبر الحربي وقد بدا متمكّناً من أدواته العروضية ومفرداته الشعرية، اللغوية••• قد صاغ قصائد مجموعته على تفعيلات الأبحر الصافية: فاعلن، فعولن، متفاعلن••• ليؤكد أن تجربته الشعرية ما زالت مرتبطة بالجذور وأنها لم تسقط بعد في هاوية (قصيدة النثر) التي أساء لها الكثيرون وقد دخلوا عالمها قبل أن يكتبوا قصيدة العمود (الكلاسيكية) وقصيدة التفعيلة وصولاً إلى قصيدة النثر وإن اقترب منها الحربي في بعض جمله الشعرية:

"ساعدني
أن لا أصبح مكسوراً
أن أملأ عطشي من ماء النهر الخالد
أن أورق في الظل وفي الشمس
أن أنقل قلبي عبرك لا ضدّك
ساعدني
أن أصبح لكْ "•
(هاجس) / 82
ويبقى الحس الإنساني والوجع الساكن في أعماق المبدعين هاجساً، نابضاً في قلوبهم، جارياً في عروقهم ومحكيّاً في عيونهم قبل حروفهم، يلتقون على شفا جراحاته لا ليرثوا أنفسهم بل ليغنوا لغد آت:

"لو أن لي عينين ثاقبتين أُبصر داخلي
وأهدّ أذرعة الجدارْ
لو أن صبحاً لا صباحَ له
يطالع وجههُ:
"عينان غائرتان
أنف مائلٌ
شفة مشقّقةُ
غبارْ
لو أن ليلاً خاملاً يمشي
فيدنثر الدثارْ
يا (مالك بن الرّيب)
يا السفنُ التي ودّعتُها
يا أيّها الأهلون في كبد الحمى:
(ها إنه ابتدأ النهارْ)
ها إنه ابتدأ النهارْ "•

(يمين الوقت) ، 143 - 153