( بسم الله الرحمن الرحيم ). ( الم )، ( حم )، الأحرف التي مهما اجتُهِد في تفسيرها، فالله أعلمُ بمرادها. أما الشيطانُ فرجيم، ومرجوم، ومطرود، ومبعدٌ وملعون. ونحن نعوذ بكلمات الله التامة، منه، ومن همزاته، ونعوذ بالله من شر ما خلق.
أمّا بعد، فللميم سحرُها الخاص، أكانت مفردةً متفردةً بإيقاعها الرخيم، أم ميادةً متمايلة متثنيةً متبخترةً في ثنايا المفردات والكلام، مرتفعةً مرتقيةً ببناء البيان، وإنّ من البيان لسحرا. والميمُ مهدٌ وميلادٌ، مهدُ إنسان وحضارات ولغات، والحضارات اليوم تُبنى على الهدم، فكيف هو هدمٌ وبناءُ حضارة؟! إذاً فالميمُ عندها موت. والميم اسم، والميمُ رسمٌ، وفي القلب وشم، والميم المطرُ واليم، والميم الألم والهم، والميم في الجسم الدم، وفي التوحد والتجمع قومٌ وجمعٌ وملأ وزمَرٌ وأمم، ونحن أمّةٌ، وكنا على أمّةٍ حتى سرى سُمّ الفتن والانقسامات والمصالح الضيّقة كما حالنا اليوم فمُزّقنا شرّ ممَزّق.
والميمُ الموحّد، صاحب الأسئلة قبل ديكارت، إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والميم موسى كليمُ الله، وحكمةُ عزيزٍ حكيم، والميم مريم العذراء، والمعجزة الإلهية المسيح عيسى بن مريم، والميم محمد نبي الرحمة، خاتم الأنبياء، وتأكيد نبوةٍ وبعثٍ ورسالات. والميم ملّةٌ ومنسك، وهي مسجدٌ ومآذن، ومحرابٌ ومنبر، وأماكن مقدسة، فمكة المكرمة مهبط الوحي، ومنى، ومزدلفة، والصفا والمروة من شعائر الله، والمدينة المنورة منطلق الفتوح، وهي في الصوامع، والمزامير.
والميم الملْكُ والحكمُ والميزان والميثاق، والميمُ المنطق، وللطير والكائنات منطق وتسبيح، والميمُ القلمُ والعلمُ، ومن المهم أنْ نفهم، ولا فهم من دون علم، وقمة العلم أنْ نعلم أنّ فوق كلّ ذي علمٍ عليم. والمعرفةُ كتابٌ وأبواب، فهناك العالِمُ، وهناك الجاهل والأمّي، وهناك العالَمُ الذي نعرفُ، وأصله المادة لا المال، ونحن نقول عن فلانٍ أنه مادي فنعني رأسمالي نفعيّ، ومن المواد الأساسية المعادن ومنها المنجنيز والماجنيسيوم والصوديوم والبوتاسيوم، ومنها الحديد لكن الحديد ليس من الأرض كما يعتقد معظم الناس، بل منزلٌ عليها، يقول المولى عزّ وجلّ: ( وأنزلنا الحديد ). وهناك ما لا نعلم كالعدمِ والسديم، وهناك ما ينتهي، وما يُستنفَد، وهناك السرمدي.
ومن المعجزات التي تذهل العلماء والمفكرين، مراحل خلق ونمو الإنسان: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكين* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ( المؤمنون 12-14، وهو بعد حليب الأم بحاجةٍ للطعام، وجوعه يقوده للمائدة، وللمسيحيين مائدة منزلة، وهي عيدهم، والصومُ صحةٌ وعبادةٌ، والنهم عادةٌ غير مستحبة.
والميم الضمير، وما ظلّ من ضمائر حيّة في العالم اليوم، إلا من رحم ربي، والميم السلام، والإسلام دينُ السلام، وهو إيمانٌ وأعمال، فالسلام عليكم، وهو رحمةٌ: فرحمة الله وبركاته، رغم أنّ الأعداء والخصوم والمخربين والمتآمرين، وبعضهم منا، لم يتركوا لنا فرصة للسلام، ولا للمنام، أما أهلنا المقربون فلم يتركوا لنا فرصةً للكلام.
والميم المحبة والمودة والرحمة، وقد غدت جميعها منفيةٌ، ومهاجرةٌ في العلاقات، بعد حميمية عظمى ما التفتنا لها، فغدت صعبة المنال، مما هو مؤرّقٌ لصاحب الفهم، متعبٌ للمُهج، لكنما تظل مرتجاة مبتغاة، فالميم أمل، ولولاه ما سمّت العرب الصحراء مفازة، والميم توق للجَمال فمهرةٌ، وملاك، وفاطم، وإرم التي لم يُخلق مثلها في البلاد، ومها، وميّ، وتسنيم، وريم. والميمُ الميم مغيبٌ وهزيمٌ وصريم، وهي في المقابل مطلعٌ ومشرقٌ ونسيم..
وإذا ما التهم العطش صوتك وحروفك، فإن أقرب ما تنطقه دون عناء هو: ماء.. وفي الغالب فإن أول ما ينطق الطفل هو لفظ الأم: ما..، فالميم الأقرب للشفتين.
والميمُ تعشق التكرار منذ ولادتها، ونعومة أظفارها فهي: ميم،وتكرارها دائمٌ مقيم، كالفل المشموم، والشميم، والقبول بالمقسوم، والمقام المرام، ومروم، ومن الناس مسلمٌ مؤمنٌ فمكرَم، ومنهم ملحدٌ مجرم مأواه جهنم، ومن تكرارها ملوم ومليم، وحميم بمعنييها، ويحموم، ونميم، ورميم. ومعلوم، ومأمونٌ، ومأمول، وممدودٌ، ومختومٌ ومرقوم، وممجوج وممدوح. ومقام الميم، كما قلنا، الشفتان بدءاً وانتهاءً متفردةً عن كل الحروف، مؤكدةً على تميزها، ومتقدمةً على منافستها الباء في ذلك بنغمةٍ مزدوجةٍ، ودرجةٍ، ومسافة. ونحن نتيمم صعيداً طيبا ما لم نجد ماء، فسبحان من جعل في الماء الحياة وأسرارها، فالميم المنبع والمورد والمنهل وكل ذلك ماء، ومع المشكاة يغدو كل ذلك ماء المعرفة: ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) النور 45، ( وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعلهُ نسباً وصهراً وكان ربك قديراً) الفرقان 54.
واليمين والشمال جهاتٌ، ومنازل، ولها أصحاب، كما للجيوش ميمنةٌ وميسرة، ونحن نيمّم شطر الكعبة والمسجد الحرام، وللبيت مقامٌ وحمامٌ وباب سلام.
وإذا قلنا الماء جادت السماء، وللسماء سمكٌ، وسمْت، وبذكرها نذكر الشمس والقمر والمريخ والمشتري، ومطالع النجوم ومواقعها: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ). 75-77 الواقعة.
إذاً فالميمُ مقرونةٌ بالقيمة والمعنى والمنْح: الماء، والأم: وفي الكتب أمهات، والكافرُ: ( أمّه هاوية. وما أدراك ما هيه)، والكرْمُ، والكرَمُ، لذلك قبّح من يمنعون الماعون، والميم المطر من المُغيث، والمنبت والأَنعام، والمأوى والمنزل، والملاذ الآمن، والنّعمة والنعم: ( وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إنّ الله لغفورٌ رحيم) النحل 18، وَمِن جميل العطاء: نَعَم جواب الخير من أهل الخير لأهل الخير.
وللميم صداقةٌ وثيقةٌ باللام، وعلاقةُ قربى بالنون، وليس أهم من المتنبي شاهداً شعرياً على ما مضى، مانحاً للمفردات قيمتها ومهابتها، واصلاً بالشعر منتهاه ومبتغاه، متجليّاً كما القمر في ميميته العظيمة:
فُؤادٌ ما تُسَلّيهِ المُدامُ/ وعُمْرٌ مثلُ ما تَهَبُ اللِّئامُ. ودَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ/ وإنْ كانتْ لهمْ جُثَثٌ ضِخامُ. وما أنا مِنْهُمُ بالعَيشِ فيهم/ ولكنْ مَعدِنُ الذّهَبِ الرَّغامُ.أرانِبُ غَيرَ أنّهُمُ مُلُوكٌ/ مُفَتَّحَةٌ عُيُونُهُمُ نِيَامُ. بأجْسامٍ يَحَرّ القَتْلُ فيها/ وما أقْرانُها إلاّ الطّعامُ. وخَيْلٍ ما يَخِرّ لها طَعِينٌ/ كأنّ قَنَا فَوارِسِها ثُمَامُ. خَليلُكَ أنتَ لا مَن قُلتَ خِلّي/ وإنْ كَثُرَ التّجَمّلُ والكَلامُ. ولو حِيزَ الحِفاظُ بغَيرِ عَقْلٍ/ تَجَنّبَ عُنق صَيقَلِهِ الحُسامُ. وشِبْهُ الشيءِ مُنجَذِبٌ إلَيْهِ/ وأشْبَهُنَا بدُنْيانا الطّغامُ.
وليس كتفرّده في العتابِ أيضا:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي/ فيك الخصامُ وأنت الخصمُ والحكمُ.