في الغربةِ والحنين

لا يمكننا إحصاء عدد الشعراء الذين عاشوا الغربة بمختلف أشكالها وعذاباتها، غربة الروح، وغربة المكان، وغربة المنفى اختيارياً كان أم إجباريّاً، وغربة السجن..

ولعله قدر المبدع أن يكون غريباً في كل الأحوال. فهذا هو المتنبي الغريب في تعاليه، والغريب في مراميه يقول:

أنـــا في أمّــــةٍ تــــداركـها الله

               غريبٌ كصاـــــلحٍ في ثمودِ
ما مقــامي بأرضِ نخـــــلةَ

             إلا كمقامِ المسيحِ بين اليهودِ

كيف لا والقلق الروحي يلازمه منذ صباه:
فلا حاولتُ في أرضٍ مقــاماً ولا أزمعتُ عن أرضٍ زوالا
                  على قَـلََقٍ كــأن الريـــح تحـتي أوجّهـهـا يــــــمينــاً أو شِمـالا

وإنْ كان هناك من يرويها: على قلِقٍ، أي على جوادٍ لا يهدأ، فذلك لا يغير شيئاً مما عنيناه بغربته. أما غربة السجن فمَن لنا كالأمير الأسير أبي فراسٍ الحمدانيّ، ومن منا لا يعرف قصيدته الآسرة الموجعة:
أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا لو تعلميــن بحــالـي

وهناك من هو في الغربة رهين سجنين وليس سجناً واحداً، كأبي العلاء المعرّي، سيّد الغرباء، صاحب القول الشهير المختلف عليه: هذا جناه أبي عليّ، وما جنيت على أحد، رهين المحبسين، وهو من أطلق هذا الاسم على نفسه، وهما كما هو معروف: العمى، والدار التي اعتزل فيها الناس أربعين عاماً بعد وفاة والدته، ما تركها غير مرة واحدة، وقصيدته:
غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي نـوحُ بـاكٍ ولا ترنّـم شـــادي

وهي قصيدة تختصر قلق الأسئلةِ، أسئلةِ النفس والوجود، والموت والحياة.

وكلّ ما سبق ليس بغريب عن ذاكرة القارئ العربيّ، الغريب هو الشاعر العربي الجميل الرقيق الصّمّة ابن عبدالله بن الطفيل القشيري، الذي وإنْ ذاعت له أبياتٌ شهيرةٌ، فلا يعرف معظم الناس أنه قائلها. وهو من شعراء العصر الأموي، ولد قرب الرياض، والرواية الشهيرة أنه أحب امرأة من قومه من بني عمه هي العامريّة بنت غطيف، فخطبها، فلم يزوجوه إيّاها لعجزه عن أداء مهرها كاملاً، ولتكلفهم في تعجيزه، ويذكرها في شعره بريّا، وطيّا كلّ حنين.

التحق بالجيش الإسلامي، وظل يحنّ للحمى، وابنة عمومته التي منع عنها، حتى توفي في طبرستان حيث قادته الفتوحات. ومن ألطف الشعر العربي في البعد والوجد والحنين هذه الأبيات من قصيدة بديعة له:

حننتَ إلى ريّا ونفسك باعــدَتْ

                      مزارَك من ريّا وشعباكما معــــــا

فما حسنٌ أن تأتيَ الأمر طائعـاً

                       وتجزع أنْ داعي الصّبابةِ أسمعا
بكتْ عينيَ اليمنى فلما عذلتــها

                   عن الجهلِ بعد الحلم أسبلتا معـــــــا
وأذكرُ أيام الحـمى ثم أنثنــــــي

                    على كبدي من خشيةٍ أنْ تصدّعــــا
فليستْ عشيّاتُ الحمى برواجعٍ

                    عليك ولكن خلّ عينيك تدمعـــــــــــا

وقد التفت الرحابنة إليها مبكراً، فكسوها بصوت فيروز العذب بعداً يليقُ بالأذن العربية المرهفة، وجمالاً يجسدها، ولا يخلّ بفتنتها الأولى.

وكان الأديب الراحل، المغترب بيننا، أبو عبد الرحمن عبد الله نور رحمة الله عليه، إذا ما قرأها بصوته الجهوريّ، وأدائه العبقريّ، ردّدت من خلفه الجدران حتى النخل البعيد، وكنّا نتلقّاها عنه في بداياتنا الأولى، وكان يقرأها كاملةً عن ظهر غيب، كما يفعل مع لامية العرب للشنفرى، ويحب هذين البيتين تحديداً حبّاً جمّا:
وقلتُ لأصحابي غداةَ فراقِـهـا وددتُ البحورَ العامَ بالناسِ طمّتِ
فتنقطع الدنيا التي أصبحت بنا كمثلِ مصاباتٍ على الناسِ عمّتِ

وقد جمع ديوان الصّمة وحققه الأستاذ الدكتور عبدالعزيز محمد الفيصل، وصدر عن النادي الأدبي بالرياض عام 1401هـ، فيما قام علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر بنشر مختارات من شعره في مجلة العرب، وإنه لمن المهم والجميل أن يُعاد طبع الديوان، وأن تُدوّن غربته لتؤنس غربتنا.


*نشر المقال في مجلة القافلة