الظاء.. والظلال (2)


قلتُ لها مشاكساً، وأنا أعرف أنَّها خفيفةُ ظلٍّ، ذاتُ نظرةٍ ثاقبةٍ لا تخيب، رغم صوتها الغليظ، ومظهرها المكتظ كما في رسمِ لفظة اكتظاظ، واللحظُ أصدقُ من اللفظ: قليلٌ عديدكمْ في أمَّةِ الحروف أيتها الظَّاء الظَّريفة، ألا تشعرينَ بالغيرةِ، ألا يقلقكِ ذلك؟!
قالتْ على رسلِكَ يا أخا العربِ، يبدو أنك لا تعرفنا، لكنني سأردُّ عليكَ، وأنتَ الشاعرُ، بما تعرف، ثمَّ أخذَتْ تُنشِدُ قصيدةَ السُّمَوْأل بن عادياء الأزدي، وتضيفُ عليها جمالاً وسحراً بطريقة قراءتها وغنائها، حتى انتشيتُ وكأنني أسمعها لأول مرة:

إِذا المَرْءُ لَمْ يُدنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ عِرضُهُ
              فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جـــــــــــــميلُ
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحمِلْ عَلى النَّفْسِ ضَيْمَها
              فَلَيسَ إِلى حُسْنِ الثَّناءِ سَــــبيلُ
تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا
              فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِـــــــرامَ قَلـــــيلُ
وَمَا قَلَّ مَنْ كانَتْ بَقاياهُ مِثلَنا
               شَبابٌ تَسامى لِلعُلى وَكُهـــــولُ
وَمَا ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا
               عَزيزٌ وَجَـــارُ الأَكثَرينَ ذَليـــــلُ
لَنا جَبَلٌ يَحتَلُّهُ مَنْ نُجيرُهُ
                مَنيعٌ يَرُدُّ الطَّرْفَ وَهُوَ كَــــليلُ
رَسَا أَصلُهُ تَحتَ الثَّرى وَسَما بِهِ
               إِلى النَّجْمِ فَرْعٌ لا يُنــــالُ طَويلُ
هُوَ الأَبلَقُ الفَرْدُ الَّذي شاعَ ذِكْرُهُ
               يَعِزُّ عَلى مَنْ رامَهُ وَيَـــــــطولُ
وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً
               إِذا ما رَأَتهُ عـــــــــامِرٌ وَسَلولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لَنا
               وَتَكرَهُهُ آجـــــــــــــالُهُم فَتَطولُ
وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتْفَ أَنفِهِ
                وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كــــــانَ قَتيلُ
تَسِيلُ عَلى حَدِّ الظَّباتِ نُفوسُنا
               وَلَيسَتْ عَلى غَيرِ الظَّباتِ تَسِيلُ
صَفَونا فَلَمْ نَكْدُر وَأَخلَصَ سِرَّنا
                 إِناثٌ أَطابَــــــتْ حَملَنا وَفُحولُ
عَلَوْنا إِلى خَيرِ الظُهورِ وَحَطَّنا
                  لِوَقتٍ إِلى خَيرِ البُطونِ نُزولُ:
فَنَحنُ كَماءِ المُزْنِ ما في نِصابِنا
                  كَهامٌ وَلا فينا.. يُعَدُّ بَــــــــخيلُ
وَنُنكِرُ إِن شِئنا عَلى الناسِ قَولَهُم
                   وَلا يُنكِرونَ القَولَ حينَ نَقولُ
إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ
                   قَؤُولٌ لِما قالَ الكِـــــرامُ فَعُولُ
وَما أُخمِدَتْ نارٌ لَنا دونَ طارِقٍ
                   وَلا ذَمَّنا في النازِلينَ نَـــــزِيلُ
وَأَيّامُنا مَشهورَةٌ في عَدُوِّنا
                   لَها غُرَرٌ مَعلومَـةٌ وَحُـــــجولُ
وَأَسيافُنا في كُلِّ شَرقٍ وَمَغرِبٍ
                   بِها مِنْ قِراعِ الدَّارِعِينَ فُلُــولُ
مُعَوَّدَةٌ أَلّا تُسَلَّ نِصالُها
                   فَتُغمَدَ حَتّى يُستَباحَ قَـــــــــبيلُ
سَلِي إِنْ جَهِلتِ النَّاسَ عَنّا وَعَنهُمُ
                   فَلَيسَ سَواءً عالِمٌ وَجَـــــــهُولُ
فَإِنَّ بَني الرَيّانِ قَطْبٌ لِقَومِهِمْ
                   تَدورُ رَحَاهُمْ حَولَـــــهُمْ وَتَجُولُ
ثم أردفَت ووجهها تعلوه ابتسامة الرضا والظَّفر: ولا تنسَ أننا، إضافةً إلى الكرم والنبل والشجاعة، أهلُ أدبٍ فمنَّا الجاحظ، وأهل خلُقٍ كريم عظيم، ولوْ لمْ يكن لنا دليلٌ إلا (والكاظمينَ الغيظَ) لكفَتْنا..!
قلتُ معاذ الله أن أنتقص من قدرك، أو أظلمكِ سيدتي الفاضلة، أو أن أظلم عشيرتكِ، فالظلمُ ظلمات، وإن كان كما يصف سيد الشعر المتنبي:
وَالظّلمُ مِن شِيَمِ النّفوسِ فإنْ تجدْ
                   ذا عِفّةٍ.. فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ
وَمِنَ البَليَّةِ عَذْلُ مَنْ لا يَرْعَوي
          عَنْ جَهِلِهِ وَخِطابُ مَنْ لا يَفهَمُ
يتبع