شرفةُ الموتِ.. شرفةُ الحياة..! 4
مقابلَ كلِّ ما مضى من موتٍ بسبب تعبِ الأجسادِ أو الأرواحِ أو الأوطانِ، هنالك حياة، ومقابلَ كلِّ خريفٍ هنالك ربيعٌ حقيقيٌّ وخضرةٌ ونماء، لا ربيعَ وهمٍ ودمارٍ وفناءٍ كما حلَّ بأوطاننا، وهنالك مقابلَ كلِّ سوادٍ وعتمةٍ، فجرٌ وصبحٌ، (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ). هود (81)؟!.
نعم، هنالك الحياةُ بكلِّ ألوانها وشموسها وإشراقاتها، وهنالك الإيمانُ والقبولُ والسكينةُ والطمأنينةُ، وهنالك العلمُ والدَّواءُ والعلاجُ والاستجمام والتأمُّل، وهنالك العملُ للدُّنيا والآخرة، والعملُ يعني الإنتاجَ والبذلَ والعطاء، ويعني الإنجازَ، وفي ذلك متعةٌ وسعادة، وهو نشاطٌ وحركة، وفي الحركةِ برَكة.
والعملُ قيمةٌ وإضافةٌ وتجديدٌ وتغيير، وذلك لا يعني النفي ولا الحذف ولا القطيعة، بل يعني الاستئنافَ في كلِّ حقلٍ معرفي، علميٍّ، أو عمليٍّ.
وللأسف فإنَّ الحاصلَ في دولنا هو غيرُ ذلك، ومِن ذلك الحذفُ لا الإضافة، والقطيعةُ لا الاستئناف، إنْ على مستوى الإدارات والوزارات، أو على مستوى القيادات والنخب، لذلك لا تُراكِمُ هذه الدولُ إنجازاتِها عبرَ السنين، ولكنَّها تعود كلَّ مرةٍ إلى الصِّفرِ، أو نقطة البداية الأولى، وفي ذلكَ نكوصٌ وظلمٌ للأوطانِ والأجيال.
وكونُ العملِ مرتبطاً بالتجديد والإضافةِ فذلكَ مصدرُ متعةٍ وسعادة، وهو دافعٌ قويٌّ للرغبة في الحياةِ، ومصدرٌ للطاقةِ، والقدرةِ على تجاوزِ الصُّعوباتِ والتحديات.
ومن مصادرِ السعادة في الحياة العطاءُ والبذلُ دونَ منّ، والرغبةُ في خدمةِ النَّاسِ والوطَن، والتطلُّع إلى كسبِ مكانٍ متقدمٍ للفردِ وللوطنِ وللأمَّةِ بين الأمم:
« أحببتُ نفسيَ بعدَ أنْ أسكنْتُها
حبَّ البلادِ.. فأوْرَقَتْ بالنَّاسِ.
ورسمتُها شَجَراً وكمْ علَّمتُها
أنْ لا تثورَ على ندى الكرَّاسِ.
ولكمْ فرحتُ وقدْ رأيتُ ثمارَها
ولمحتُ في أفيائِها حُرَّاسِي..!»
إنَّ تخلُّص الإنسانِ من الأنانيَّةِ، وغَلَبةِ الذَات، ومن الشحِّ، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). الحشر (9)، والتفكيرُ فيمن حوله، وما حوله، محبّاً لا كارهاً، وواصلاً لا قاطعاً، ومضيفاً لا حابساً ولا مانعاً، هو الفلاح، وهنا يسمو الإنسان، ويعلو، فلا يجرحُ ولا يؤذي، بل يحلُمُ ويصفحُ ويعفو.. ويَسعَدُ، ويُسعِد، فما أجمل العفوَ والصفحَ (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). النور (22)، (مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ). الشورى (40)، والفضلَ (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ). البقرة (237)، والبرَّ، ومفهومه أرحب وأوسع مما يفهم الناس، ومن ذلك: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). البقرة (177)، والرحمةَ التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في ثمانية وستين ومئتي موضع، ومن معانيها غير ما وصفَ بها الله نفسَه، الجنّةُ والمطرُ، والرزقُ، والمودة والعطف والرِّقةُ، وهي عند ابن منظور: الرَّحْمَةُ في بني آدم عند العرب رِقَّةُ القلب وعطفه، ومنها الرَّحِم: وهي عَلاقة القرابة، وسمِّيتْ رَحِمُ الأنثى رَحِماً، لأنَّ منها ما يكونُ ما يُرْحَمُ وَيُرَقّ له مِن ولد.
فمن أين أتت الوحشيَّة والقسوة والإرهاب إلى قلوب وعقول هذه الفرق والجماعات التي تمزِّق جسد الأمَّة والأوطانِ والمجتمعات والأسر..!
« لا تجرحِ النَّاسْ
عطرُ النَّاسْ
ما ضَرَّكْ.
واخفِضْ جناحاً..
لِمَنْ تهوى
ومَنْ برَّكْ.
واْسْعَدْ.. وأَسْعِدْ..
فما سَرَّ الوَرَى سَرَّكْ.»
إنَّ أبوابَ الحياةِ ونوافذها وشرفاتِها كثيرةٌ ومثيرةٌ ومضيئة، متى كانت أبواب ونوافذ وشرفات القلب والعقل مفتوحةً للضّوءِ والحياة، ومُحبَّةً للبَشر، ومُحبَّةً للأرضِ والكائنات، ومُحبَّةً للحقِّ والخيرِ والسَّلام.
وقبل كل ذلك يكون الإيمان واليقين، وما يرسيان من سكينةٍ وطمأنينة وأمان، والحبُّ وما يغمر القلبَ والروحَ من ندى، فتغدو الأقوالُ والأفعالُ كريمةً نبيلةً يتجاوزُ الإنسانُ فيها نفسَهُ ويصلُ إلى محيطِهِ، ويُشرق على العالم بالخير والجمال، لا حدودَ تحدُّهُ، ولا بحرَ يوقفهُ.. ولا جبال..
حوارُهُ الحبُّ، ونبذُ الحرب:
«حَاوِرْ بالحُبْ
كمْ حَاوَرَ بالحبِّ صَحَابَةْ.
واكتبْ للناسْ..
واجعلْ مِنْ كفَّيكَ سحابَةْ.
لا فِتنَةَ حَرْبْ..
لا صَوْتَ رصَاصْ..
لا نَزْفَ سِوى عَزْفِ ربابَةْ.»
وسلاحُهُ الحبُّ في طريقِ السَّلام:
«حاربتُ بالحُبِّ حتَّى عادَ مُنتصِراً
لا يُهزَمُ الحبُّ طبعُ الحبِّ غلَّابُ..!»
المقاطعُ المقوَّسة للشَّاعر كاتب المقال.