غوايةُ الغين!!(1)
لو استطعتُ إذا ما كنتِ غائبةً
غضضتُ طرفي فلمْ أنظرْ إلى أحدِ.
اخترتُ هذه المبالغة اللطيفة لابن زيدون، وهو يدافع عن وفائهِ لحبيبته، أمام هجمة الوشاة والحاسدين:
لمّا اتصلْتِ اتّصالَ الخلبِ بالكبدِ...
ثمّ امتَزَجتِ امتِزاجَ الرّوحِ بالجسدِ
ساءَ الوُشاةُ مكاني منكِ، واتّقدَتْ
في صدرِ كلّ عدوٍّ، جمرةُ الحسدِ.
لتكون مدخلي إلى الغين المليحة الغانية التي تمتزج امتزاج الروح بجسد الحروف كما هي حال حبيبة شاعرنا هنا، هذه الغين التي لا تنفك تنفي غرورها بجمالها، وعرفها، وصوتها العذب، وغنائها المحلّق، كما تنفي، بشدةٍ لا تخفي غنجها، تعمدها الإغراء والإغواء، أو أنها تتعمد النأي، وعدم الظهور بكثرةٍ، وبذل جهدٍ أقلّ من غيرها من الحروف لتحافظَ على نضارتها، ولتظهر غير مشاعةٍ كأختها العين، وهي تفند كل ذلك بقولها إنها رغم غناها ووقوع المئات في غرامها محافظةٌ على تواضعها، مخلصةٌ في عملها وتناغمها مع بقية الحروف لخدمة دولة الحروف بحبٍّ يصل حدّ التفاني وإنكار الذات، وتتابع بثقة بالغة: نحنُ لا نميز حرفاً عن حرفٍ البتة مهما بلغت أهميته والمساحات التي تغطيها جنانُه وغلالُه، فكل ذلك يعود كما تعلمُ إلى خزائن اللغة العربية، وكل ما يقال عني إشاعات مغرضة تحيكها جماعات غايتها الضغط علينا حسداً من عند أنفسهم، بينما يفترض أن تحلَّ محلّ ذلك الغبطةُ بنا وبعملنا، وتضيف: أستغفر الرحمن، فأنا لم أقم بأي عمل غير أخلاقي، ونحن نتنافس بشرف، أما الجمالُ، فالجمال في النهاية من فضل الله يهبه لمن يشاء.
وتدعمها في ذلك أختها العين بكل قوة قائلة: إننا عائلة متماسكة خدمت اللغة المبينة، ومملكة الحروف العربية، وليس ذنبنا أن يعجب الناس بحضورنا الطاغي، ومن يحاول إثارة الفتنة بيننا يحاول ذلك لغايةٍ مريضةٍ في نفسه، ولا أرى غرابة في ذلك، فللحروف ممالك في الشرق والغرب، ولكن دع المغرضين في غمرتهم، سنرى.
والحقيقةُ أن للغين رغم رقتها حضوراً مهيباً كحضور الغزاة الفاتحين الغالبين قديماً وحديثاً، ولا غالب إلا الله، ولا يزال هذا النقش الخالد موجوداً في قصر الحمراء في غرناطة، دليلاً على حضارةٍ إسلاميةٍ تعمرُ الأرض ولا تهدمها، بل تغمرها بالإيمان والسلام والمعرفة، رغم جهود الطغم الخاسرة لوصمها بالإرهاب كما يحدث هذه الأيام.
ونحن نجدها في مطلع سورة الروم: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}. وفيها من الغيب والنبوءة والإعجاز ما فيها للمتدبرين.
وهي في غافر والتغابن في سور القرآن الكريم: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(9) التغابن. والتغابنُ في المعجم يوم القيامة، سُمّي بذلك لأنّ أهلَ الجنَّة يغبِنون فيه أهلَ النَّار، أو لأنّه يوم تبادل الاتِّهام بين المستكبرين والمستضعفين.
أما في سورةِ الكهفِ فلها حضورٌ أخّاذ يغطي مساحات واسعة من حقولها من قصة أهل الكهفِ: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْه} (17)، {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (21)، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} (29).
إلى قصة صاحب الجنتين الذي بلغ منتهى الغرور فنسي كنزاً من كنوز الجنة ( لا قوةَ إلا بالله) فخسر جنتيه: {أَوْ يُصبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} (41)، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (49)، {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} (55).
حتى قصة موسى الغريبة العجيبة مع الخضر عليهما السلام: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (60) {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (62). {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (71)، {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} (74)، {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} (80).
إلى آخر السورة الكريمة وقصة ذي القرنين الذي بلغَ المشارقَ والمغارب: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} (86، {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (96)، ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} (101).
وغير ذلك كثيرٌ مثيرٌ لدهشةِ العينِ والسمعِ والعقل عبر النسج القرآني العربيّ المبين: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (195). الشعراء.