السلامُ عليك يا أبا الشعر والطيب، يا صاحبي في العزلة والحرقة والحزنِ والتأمل، أيها الكنْديّ يا أبا الطيّب المتنبي، يا حافظاً للشعر هيبته ومكانته وذراه، وللغةِ جمالها وسحرها وجلالها، وللحكمةِ وقارها وحضورها وشبابها الذي لا يشيبُ في وقتٍ ابتُذِلتْ فيه الكلمةُ، واختلط الحابلُ بالنابل، وأزاحتْ التفاهةُ الممنهجةُ المعتمدةُ، والعامية المصطنعة في معظم وسائل البث، الثقافةَ الفاعلةَ الموجبة، فغابت الحقيقةُ والحق وما يفيد،
وحل التعتيم والتضليل، وثقافةُ الاستهلاكِ على الطريقةِ الأمريكية الغربية في تخدير الناس، محلَّ الثقافة الغنيّة بالفوائد التي تحمي الشعوب والعقول، وتحصنها، وتكسبها المناعة ضد الغزو المبرمج الموجه ليل نهار لمسح الهوية وتذويبها، ومحو اللغة العربية، وإقصائها. أما أنا فأنتَ إنْ سألتَ عنّي، حيث:
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطق إنْ لم يسعد الحالُ
إنّا لَفي زَمَنٍ تَرْكُ القَبيحِ بهِ
من أكثرِ النّاسِ إحْسانٌ وَإجْمالُ
أكتب إليك يا سيد الشعر وقد أصبحنا فريسة ووليمةً للقويّ والضعيف والقادر والعاجز، فكل العالم له مصالح ومطامع هنا، تستفرد بنا الأمم دولة دولة كما يستفرد الذئب بالشاة، وتقطع أوصالنا كالخراف. تتكالب وتتكأكأ علينا الدول بجيوشها ومخابراتها، وتستخدم أبناءنا لقتلنا، وتفتيت أوطاننا، وتدمير مكتسباتها وبناها التحتيّة، وحرق محاصيلنا الزراعية والمعرفية. وكم ستذهل أدام الله شِعرك من عدد هذه الدول التي تغزو أرضنا وعقول شبابنا، فقد كنتم تحاربون الروم والفرس، أما نحن فإن العالم كله يحاربنا، إضافةً إلى من يستميله من أهلنا. أما اليهود الذين طردناهم من المدينة وخيبر، فقد تصهْيَن معظمهم، ومنحتهم قوى الاستعمار أرضنا المباركة فلسطين ليقيموا عليها دولتهم المسخ إسرائيل، وهم في الحقيقة من يوجهون ويقودون العالم ضدنا اليوم لتحقيق حلمهم بإسرائيل الكبرى، وها هو حقدهم وكيدهم يتنامى كالخلايا السرطانية، ولا أخفيك يا سيدي أن كل هذا لم يكن ممكناً لولانا، لولا من جار، وجبن، واستسلم من أهلنا لرغبات من يعادينا.
إن الناس لدينا اليوم كما وصفت:
تخالفَ الناسُ حتى لا اتفاقَ لهمْ
إلا على شجَبٍ والخُلفُ في الشَجَبِ.
كلٌّ يفتي، وكلٌّ يحرض على القتل والحرب، وكلّ يدّعي علماً ولا يعلم، وكلٌّ يريد أنْ يحكم، حتى أصبح دم الإنسان البريء مهدوراً، لا يثير حفيظة، ولا غيرة، ولا حتى تأفّفا.
واليوم يا صاحب الحرف صاحبي لم تعد الحروب كما كانت، فلقد تنوعتْ أسلحتها، فأصبح هنالك غير النووي، اليورانيوم المنضّب، والقنابل الفسفورية، وأسلحة الليزر، وكلها قد جُربتْ واستُخدمتْ ضدّ أهلك في العراق، وفلسطين، ولبنان، كما تعددت عناوينها فأصبحت هنالك حروب اقتصادية، وتقنية، وإعلامية، وقد برع في الأخيرة قومنا، ولكن ليس على أعدائهم، بل على أهلهم وأوطانهم، فأنشئت قنوات الفتنة والتضليل، وأصبحت أكثر من البقالات والدكاكين، ولا أرى من داعٍ لك لتسميتها هنا، فهي أكثر من الجراد والأمراض المعدية كمّاً وأذىً، وأنا لن أستطيع حصرها، وأنت يا سيدي لن تستطيع تذكرها.
كما قامت الدول الكبرى بتعزيز وتفعيل سياستها الخبيثة: فرق تسد، فتفرقت الناس، وصارت شيعاً، واختلف الأهل، والأصدقاء، فحل القتلُ محل العقل، وحل مكان الحكمة الجهلْ.
أما الخيل الكريمة النبيلة النجيبة التي أحببت، وكانت جزءا منك، فأجدت في وصفها، وما زلنا نردد شعرك فيها أيها الجواد الحرّ:
وَجُرْداً مَدَدْنَا بَينَ آذانِهَا القَنَا
فَبِتْنَ خِفَافاً يَتّبِعْنَ العَوَالِيَا
تَمَاشَى بأيْدٍ كُلّمَا وَافَتِ الصَّفَا
نَقَشْنَ بهِ صَدرَ البُزَاةِ حَوَافِيَا
وَتَنظُرُ من سُودٍ صَوَادِقَ في الدجى
يَرَينَ بَعيداتِ الشّخُوصِ كما هِيَا
وَتَنْصِبُ للجَرْسِ الخَفِيِّ سَوَامِعاً
يَخَلْنَ مُنَاجَاة الضّمِير تَنَادِيَا
تُجاذِبُ فُرْسانَ الصّباحِ أعِنّةً
كأنّ على الأعناقِ منْهَا أفَاعِيَا
فقد أصبحتْ كما وصفها حفيدك الجنوبيّ أمل دنقل في قصيدته الخيول، أسيرة المتاحف، ووسيلة لترفيه السيّاح عند الأطلال، وأملٌ شاعرٌ مجيدٌ يا سيدي ورجل صالح، صاح مبكراً في قومهِ، ونصح لهم، وقال لحاكم مصر، وللعرب: لا تصالح، وكانت صرختهُ القصيدة مدويةً عالية، لكنهم استغشوا ثيابهم، واستكانوا، واستطابوا الذلة، وها هم الأهلون يذوقون مرارة سياساتهم، وها هي معظم الأوطان تحترق، فكلّ دولةٍ غارقةٌ في مشاكلها، منكفئة على نفسها. دولٌ ليس لها غير الاسم، حتى أعلامها تغيرت، لا أمنَ فيها ولا أمان، ولا قوةَ ولا جيوش، يزداد فيها الفقراء فقراً، والمهمشون تهميشاً، وكلّ منها وفيها يبكي على ليلاه، دولٌ تستهلك وتنتج وتصدّرُ الموت.
ومع ذلك، مع كل ذلك، فإنني أجلس كلّ يومٍ قربَ شجرةِ الأملِ اليانعة، أسقيها وأشذبها وأنتظر بصبرِ المحبّ ثمارَها، أقرأ وأكتبُ، وأدافع عن قضيتي وهويتي ولغتي، وأدعو فيردد معي الطير والشجر، وبعض من رحم ربي من البشرْ.
هذا يا أبا الطيّبِ ما كان، وما تبّقى، وهذا هو زادي وكسبي، وهذا هو ديوانك دوماً بقربي، فوداعاً الآن يا صديقي الغائب الحاضر إلى أن أعود إليك مع عودةِ الياسمينِ بأخبارٍ جديدة لعلّ فيها بعض ما يسرّ، ويجبر الكسر، وأنت تعلمُ أنّ:
شرّ البلاد بلادٌ لا صديقَ بها
وشرّ ما يكسبُ الإنسانُ ما يصِمُ.