السلامُ لكِ ومنكِ وبكِ، والسلام عليك من القلب المتعب الصابر الذي
ما زالت دقاته تُردّدُ كلّ فجرٍ يشبهكِ في السكينةِ، والجمالِ، والجلالِ،
وتسبيحِ الطيرِ والشجرِ، ودعاءِ الموقنين، ورِقّةِ الندى: ما أجملكِ
وما أجمل عينيك، وما أجملني بين الجفنين أصلّي: بسم اللهِ عليك.
أكتبُ إليكِ صباح اليوم وقد أثثته بالذكرِ والشكرِ والقراءةِ والتأمل والكتابةِ والوردِ وفلّةٍ وحيدةٍ جادتْ بها نبتتُها الأليفة على طرفِ الشرفة المشرقة، تلك التي يكتسحها الغبار مهما كان الماء سخياً، فأعيد لها رونقها كعادتي وأنا أرقبها كالطفلةِ تشدني بعطرها وإلحاحها، وما بين بياض الورق وبياضها أقربها كلما وضعتُ فنجان قهوتي، وأبعدها كلما قرّبْته من فمي، تطيرُ بي الأفكار كالعصافير التي أطعمتها بالأمس، وتهبطُ بي على أغصان أوطانٍ وخلان، فأسمعُ كلّ شيءٍ ولا أفهمُ شيئاً، وأرى كل شيءٍ فلا أبصر إلا الموت والدمار، فأسال روحي بحرقةٍ ما بال الناس تغيرت، واستمرأت القتل والفتن والفوضى كأن لا حياة إلا بها؟!
وحدها القهوة التي لم يتغير طعمها، ولا لونها، وحدها التي لم تتغير رائحتها، كامرأةٍ عطرها منها، كامرأةٍ لا تغير عطرها، ووحدها التي تعيدني إلى نهر الكتابةِ، والواقعُ الجفاف والجدب.
لا تلوميني على انقطاع رسائلي فأنا أيضا اشتقتُ إليها كبحارٍ لسفينتهِ والبحر، كم اشتقتُ لنثرها لؤلؤاً لعينيك، أكتبها وأبعثها لك أنت، لك أنت وحدك، فالرسائلُ لها وجهةٌ واحدةٌ، أما الشعرُ فلهُ كل الجهات حتى لو اختار نجمةً متفرّدةً واحدة، تضيء في القربِ والبعد، وتجعلُ للحياة معنى، وللأملِ بقيةٌ صالحة.
يا أنتِ لا تعذليني فذلك يوجعني وإنْ كان حقّا، لا تطلبي مني إغماض عيني، ونسيان ما لا ينسى، والرأفة بأعصابي وقلبي:
لا تعذليهِ فإن العذل يوجعهُ/ قدْ قلتِ حقاًّ ولكنْ ليس يسمعُهُ (1)
فقد اخترتُ الشعر بوحاً في الأشهر العصيبة الماضية، والغناء كما تفعل الطير وهي تنوح، كسجعها وترجيعها، بعد أن لفني الحزن ودثرني، وما استطَعتُ النثرَ منذ عامٍ، ولم أجد إليهِ سبيلا.
يقتلني يا سيدتي ما يحدث لأمتنا، ولأوطاننا، يقتلني غياب العقل، وحضور الجهل والقتل، يقتلني من يدّعون حب الله، وحب رسوله، وحب الأوطان ويسعون إلى تجزئتها وتمزيقها وتفتيتها مع أنهم يعلمون أن تفتيت وتقطيع وتقسيم وتجزئة الأوطان، وتهجير أهلها المقيمين الآمنين، رجسٌ من عملِ الشيطان. ها هم يقطعون الأطراف، ويشقون الصدور، وينتزعون القلوب، ويشوونها، ويأكلونها، حتى الأعداء يا طيبة بظلمهم وجبروتهم وجورهم لم يفعلوا ذلك، ومن قبلُ هم يقطعون ويجزئون البلدان والأوطان، ويقولون إنْ نريدُ إلا الديمقراطية والإصلاح!!
تلك الأوطانُ التي انتظرت الربيعَ أمَلاً كالحقول والبشر، فهجم عليها خريفُهم فذوتْ وتساقطتْ كالأوراقِ الصفراء وأملُها لم يُثمرْ بعد.
وأظلّ أسأل ترى من علم هؤلاء القسوة والوحشية والهدم والقتل؟ هؤلاء الذين يقتلون ويسرقون ويدمرون ويسنون القوانين وهم صمٌّ عميٌ لا يعرفون الشمال من اليمين، هؤلاء المخربون الذين يحتلون بيوت الآخرين ومتاجرهم ومزارعهم، وممتلكات الدول، ويتصرفون بها كأنها ملكهم، ثم يدمرونها، ثم يستعينون بغيرهم لإعادة إعمارها كما حدث في العراق على سبيلِ المثال لا الحصر، لينهبوها تارةً أخرى.
ما هذا الجنون؟ وإلى أيّ قاعِ جحيمٍ هم ماضون؟!
أسألك الله وبالأسماء الحسنى ألّا تعتبي إنْ فاحتْ رائحةُ الدَّمِ والبارودِ من لغتي، فما أنا فاعلٌ وقد فخّخوا الأوطان وفجروها، وقتلوا وهجّروا بنيها.
لا شيء عندي اليوم سوى هذا السقف وهذه الجدران التي تحولت إلى شاشةٍ تعرض القتل والموت والخراب، لاشيء سوى الأبواب المغلقةُ التي حتى لو فتحت تعود بك إلى نفس المكان.
لا شيء لديّ اليوم سوى هذه الأحرف العاليات التي أقطفها لك من الغيم، وأجلبها من بحرِ اللغةِ العظيم، لأنظمها لك مع الحنينِ درّاً وعقدَ ياسمين.. أيتها الوردة من أهلي التي تُشعرُني بالأمنِ وتشرِقُ روحي حين أراها في العينينِ تُصلّي.
لا شيء معي اليوم سوى الحب الذي يظل يكبر ويزهر ويثمر، ولن يستطيع الكره والحقد الذي ينشرون أن يحل محله، فالحب كما دوّنَتْهُ القصيدةُ لك من قبلُ أيتها الحبيبة:
« الحبّ من شجرٍ يصلّي يستغيثُ ويستعينْ. والماء سرّ العارفينْ.
والغيم منكِ.. ومن تنهّدِ سائلينْ؟ الحب طفلٌ لا تمرّ بهِ السنينْ. آمنتُ.. لولا الحبّ ما جادَ الصباحُ بوجهِ سيدةِ الحضورِ وما تدفّقت العطورْ. شلالَ موسيقى وشِعرٍ إذْ جلستِ.. وتعبرينْ.» (2)
أما الختام فسلامٌ كما تفتح براعم البدء لروحكِ التي أحب.
***
(1) ابن زريق البغدادي
(2) من قصيدة الحب للشاعر كاتب المقال